في عام 1938، نشر الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار كتاباً مُفاجئاً بعنوانه ومقترحه: "التحليل النفسي للنار". لكنّ قارئ الكتاب سرعان ما سيكتشف، منذ صفحاته الأولى، أننا إزاء تحليلٍ لعلاقة الإنسان بالنار، ولمكانة هذه الأخيرة في حياته ومخيلته وأساطيره ومجاله اللغوي والشعري، أكثر من كوننا إزاء "تحليل" للنار نفسها.
على هذا المنوال نفسه يأتي كتاب "التحليل النفسي للكارثة"، للمحلّل النفسي والمفكّر الفرنسي بول لوران أسّون، والصادر حديثاً عن "منشورات فرنسا الجامعية" في باريس.
ينطلق الكتاب من الصبغة الكارثية التي ينصبغ بها حاضرُنا: من نظريات نهاية الحياة على الكوكب إلى الكوارث الطبيعية والمناخية، مروراً بالكوارث الصحّية والاجتماعية، من حروب وصراعات وغيرها. وبدلاً من قراءة سياسية أو اجتماعية أو بيئية للكارثة، يعالج المؤلّف ما يسمّيه "معرفة اللاوعي" التي يمكن لها أن تُساعدنا على فهم الكوارث والذوات المُصابة بها.
عبر ربطه الكارثة بمعناها الطبيعي والموضوعي بالكارثة في بُعدها الشخصي، يفتح أسّون الباب على حقل واسع من التحليلات والممكنات النظرية: فالتحليل النفسي الفرويدي، ومن بعده الوينيكوتي (نسبةً إلى وينيكوت) اللاكاني، انشغل المؤلف بمسألة الكارثة باعتبارها مرادفاً للصدمة، والرضّ النفسي، والانهيار.
وهو هنا يختار المسار الفرويدي ليبني عليه قراءةً موسّعة للكارثة: أي أنه يجعل منها رديفاً لما يسمّيه الفلاسفة بالحدث، أي لواقعةٍ لم نكن نتوقّعها، تلمّ بنا فتغيّر أحوالنا وتغيّرنا شخصياً، وربما تقلبنا رأساً على عقب لتجعل منّا شخصاً آخَر. وهو يقدّم تبريراتٍ نظرية عديدة لهذه القراءة الموسّعة، أقدمُها الأصل اليوناني لكلمة "الأزمة" في الفرنسية ــ catastrophe ــ والذي يعني في لغة أفلاطون قلْبَ شيءٍ ما رأساً على عقب.
يقدّم الكتاب تنويعات نظرية عديدة على الكارثة: من مقارنتها بفراق الأم لدى الطفل الصغير إلى اقتراح خريطة للكوارث، مروراً بـ"جماليات الأطلال" و"كتابة الكارثة"، وانتهاءً بالنحو الذي يصعّد من خلاله الفردُ الكوارثَ التي تلمّ به؛ أي النحو الذي يحوّل من خلاله الأزمة الكُبرى هذه إلى موضوع للجماليّ أو للحنين أو للإنتاج الإبداعي.