بول فاين.. كتابة التاريخ من منظور سوسيولوجي

04 اغسطس 2021
(بول فاين)
+ الخط -

يرى المؤرخ الفرنسي بول فاين (1930)، في مؤلّفاته المتعدّدة مثل "هل اعتقد اليونانيون بأساطيرهم" و"حين أصبح عالمنا مسيحياً"، أنه لا يمكن اختزال التاريخ في علمٍ، ولا سبيل لاستخلاص معرفة مباشرة بالصيرورة التاريخية، وبذلك تقترب الكتابة التاريخية من الفلسفة أكثر من اقترابها من العلم.

صدرت حديثاً عن سلسلة "ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" النسخة العربية من كتابه "كيف نكتب التاريخ" بترجمة الباحثيْن اللبنانيْين سعود المولى ويوسف عاصي. يمثّل الكتاب "نوعاً من الإبستيمولوجيا التاريخية، أخذ فيه فاين مسافة واضحة من الماركسية كما البنيوية، وهما المقاربتان اللتان كانتا سائدتين في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، ليستند إلى منهج السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر الذي يعتبره عالمًا بالتاريخ أكثر منه عالم اجتماع"، بحسب بيان المركز.

حين صدر هذا الكتاب في عام 1971 اعتبره كثيرون مستفزًا، وأنه يعيد النظر في اليقينيات العلموية الشائعة في تلك المرحلة. والحال أنه جاء ليملأ فراغًا نظريًا في مباحث التاريخ، حيث كانت تسود الأرقام والمنحنيات والنظريات الاجتماعية الكبيرة المتأثرة بالماركسية حينذاك؛ إذ وقف فاين في وجه الخطاب المهيمن ليطرح مقاربة تقليدية إنسانية ملونة بشيء من الشكوكية. نعم، كانت نزعته الإنسانية واضحة من حيث إيلاؤه المكان الأول للفاعل التاريخي الذي رأى فيه حاكيًا راويًا للحقيقة. أما شكوكيته فظهرت في حذره من كل محاولات المفهمة الحديثة المظهر، سواء أجاءت من المدرسة البنيوية أم الماركسية. ولعل أهم ما في هذا الكتاب توكيده مفهوم الحبكة وقدرته السردية بما يشبه ما قال به بول ريكور بخصوص القص الحكائي الذي يرى فاين أنه يغذي على نحو مبطن نظرية التاريخ.

يتألف القسم الأول "موضوع التاريخ" من خمسة فصول، هي: "التاريخ ليس إلا سردًا حقيقيًا"، و"كل شيء تاريخي، إذًا لا وجود للتاريخ"، و"لا وقائع ولا صعيد، بل حبكات"، و"بدافع الفضول الخالص لما هو خصوصي"، و"نشاط فكري".

اعتبر كثيرون كتابه مستفزاً، وأنه يعيد النظر في اليقينيات العلموية الشائعة في تلك المرحلة

أما القسم الثاني فيتضمّن أربعة فصول، حيث يبيّن في الفصل الأول "فهم الحبكة" أن "التاريخ لا يقوى على الاكتفاء بأن يكون سردًا، كما يُقال عادة، فهو يفسر أيضًا، أو بالأحرى، عليه أن يفسر، وذلك اعتراف بأنه لا يفسر دائمًا، وبأنه يمكنه عدم التفسير من دون التوقف عن كونه التاريخ"، ويرى في الفصل الثاني "نظريات ونماذج ومفاهيم" أن لا أشياء طبيعية في التاريخ، "ونعني بالطبيعية هنا أنها مثل نبتة ما أو حيوان ما، قد تؤدي إلى نموذجية أو إلى تصنيف. فالموضوع التاريخي هو ما نجعله أن يكون كذلك ويمكن تقطيعه من جديد بحسب ألف معيار ومعيار تتوازى كلها". 

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

وفي الفصل الثالث "السببية والاستنتاج الاسترجاعي"، يستحسن فاين أن يتكرر الجنس البشري، أو على الأقل تتكرر كل حقبة زمنية بعض الشيء، "ومعرفتنا بهذا التكرار تسمح لنا بالاستنتاج الاسترجاعي"، ويلفت في الفصل التاسع "ليس الوعي أساس الفعل" إلى أن تصرفات البشر تحتل، في تجربة المؤرخ، مكانًا خاصًا وتطرح الكثير من المشكلات الحساسة، وهي كثيرة: مشكلة علم اجتماع المعرفة، والأيديولوجيا والبنية التحتية، والأحكام القيمية في التاريخ، والسلوك العقلاني وغير العقلاني والذهنيات والبنيات. 

كما يضمّ القسم الثالث "تقدم التاريخ" ثلاثة فصول. في الفصل العاشر "إطالة الاستبيان"، يقول فاين إن "الواجب الأول للمؤرخ هو إثبات الحقيقة، والواجب الثاني هو إفهام الحبكة: إنما للتاريخ نقد، ولكن ليس لديه طريقة، لأنه ليس هناك طريقة للفهم. ويستطيع أي شخص إذًا أن يجعل نفسه فجأة مؤرخًا أو بالأحرى قد يستطيع ذلك، لو لم يكن التاريخ، لتعذّر الطريقة، يفترض أن يكون لنا ثقافة. لم تنفك هذه الثقافة التاريخية (يمكن تسميتها السوسيولوجيا أو الإثنوغرافيا، على حد سواء) تنمو، وأصبحت ذات اعتبار منذ قرن أو قرنين. 

أما الفصل الحادي عشر "الأرضي/ المعيش والعلوم الإنسانية"، فيجد فيه أن القوانين والأحداث التاريخية لا تتطابق، وتقطيع المواضيع وفقًا للتجربة المَعيشة ليس كتقطيع مواضيع العلم المجردة، "وينتج من ذلك أن العلم، حتى لو كان منجزًا، قد لا يصبح مِطواعًا، ولا يمكننا عمليًا إعادة بناء التاريخ معه. 

وفي الفصل الثاني عشر "التاريخ، علم الاجتماع، التاريخ الكامل"، يطرح فاين تساؤله: من أين يأتي أن علم الاجتماع موجود، وأن فائدته أعلى من فائدة طريقة التعبير المستخدمة من طرف المؤرخين؟ يقول: "السبب في ذلك أن التاريخ لا يقوم بكل ما ينبغي فعله، ويترك لعلم الاجتماع مهمة القيام به عوضًا عنه، حتى ولو تخطى الهدف. ولأنه مقيد بمنظور الأحداث يوميًا، يتخلى التاريخ المعاصر لعلم الاجتماع عن الوصف اللاحدثي للحضارة المعاصرة. ولأنه مقيد بالتقليد القديم للتاريخ السردي والقومي، يتشبث تاريخ الماضي، بشكل حصري جدًا، بالقص ملحقًا بمجموع متصل في الزمان والمكان. ونادرًا ما يجرؤ على رفض وحدات الزمان والمكان، ليكون أيضًا تاريخًا مقارنًا. والحال أنه يمكننا الملاحظة أن التاريخ إذا ما حزم أمره ليكون كاملًا وأن يصبح ما هو عليه بالتمام والكمال، فإنه يجعل علم الاجتماع غير مفيد".
 

المساهمون