حتى عام 1937، لم تكن "كولّج دو فرانس"، وهي واحدةٌ من أبرز المؤسّسات المعرفية في فرنسا، تضمّ في حقولها الدراسية كرسيّاً يخصّ ما يُعرَف بـ"النظرية الشعرية"، وهي ترجمةٌ قد تكون متعجّلة لمفهوم Poétique الفرنسي، القادم بدوره من poiesis اليوناني (أن تبتكر، أن تُبدع)، الذي يشير إلى حقلٍ من شأنه دراسة الإبداع الكتابي في مجمل حقوقه، وليس الشعري منه فحسب.
كان الشاعر والمفكّر الفرنسي بول فاليري (1871 ــ 1945) أوّل مَن شغلوا هذا الكرسيّ، الذي افتتح "الكولّج" من أجله، وظلّ يلقي دروساً من خلاله حتى رحيله؛ وهي دروسٌ لم يسبق لها أن جُمعت في كتاب رغم الأهمّية التي ستعرفها في الفضاء الثقافي الفرنسي.
بتحرير الناقد الفرنسي ويليام ماركس، الذي يشغل كرسيّ الآداب المقارنة في المؤسّسة نفسها، صدر حديثاً في جزأين، عن منشورات "غاليمار" في باريس، مجمل الدروس التي ألقاها فاليري بين عامَيْ 1937 و1945.
ونظراً لتنوّع المواضيع والحقول التي عاينها الشاعر في دروسه، فقد شاء محرّر دروسه تقسيم أرشيفه بحيث وضع للكتاب الأوّل (دروس 1937 ـ 1940) عنواناً فرعيا هو "الجسد والروح"، في حين حمل الكتاب الثاني (1940 ـ 1945) عنوان "المجتمع والتاريخ".
وتشمل الدروس مجمل الأبحاث التي قام بها صاحب ديوان "المقبرة البحرية" (1920) حول مسألة الإبداع، إن كان في جانبها الشخصي، أو في علاقة فعل الإبداع والفنان والشاعر والكاتب بالمجتمع.
وتتنوّع، بين سنة دراسية وأُخرى، المقاربة التي يتّخذها فاليري، حيث ينتقل من عِلم نفس الإبداع إلى علم الاجتماع الأدبي، ويُناقش نظرية تلقّي الأعمال الفنية والأدبية، كما يدخل في حوارات مع العديد من مفكّري وأفكار زمانه، حول اللغة واللسانيات والفلسفة وحتى علوم الدماغ والأعصاب.
ولا تمثّل الدروس التي قدّمها الشاعر الراحل "تجميعاً" لأفكار قيلت قبله أو في زمانه، بل إنه يقترح رؤاه ونظرياته الخاصّة، كما في دعوته إلى دراسة فعل الكتابة ضمن علاقتها بالجسد، أو في النحو الذي تُعيد من خلاله اللغة ترتيب "الحياة النفسية" للمبدع والقرّاء والمجتمع بشكل عام.