"تركيا حليفٌ إشكاليّ"، هذا ما تُلخّص به الدّبلوماسية الأوروبية طبيعة العلاقات المُنعقدة بين القارّة العجوز وتركيا التي تزايد نفوذُها مؤخّراً في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. تشي العبارة بما في هذه العلاقات من التباس يصلُ إلى حدّ سوء الفَهْم، الأمر الذي اقتضى من بنجامين غوريس (1980)، المُتخصّص في الشأن التركيّ، إصدار كتابٍ بعنوان: "أفكار نمطيّة عن تركيا: السياسة والاقتصاد والمجتمع، جرد"، ظهر مؤخراً، عن دار "الفارس الأزرق" في باريس.
يقوم هيكل الكتاب على إيراد فكرة خاطئة تسود في أوساط الرأي العامّ، الذي سمّاه ديكارت "الحِسّ المُشترك"، ثم على دحضها أو إبراز نسبيّتها مُستخدماً آليات الشكّ والتنسيب والربط بالسّياقات الخاصّة والعامّة، والرّجوع إلى الجذور التاريخيّة... من أجل وضع الظّواهر المدروسة في منظور تطوُّريّ، يُضيء على تحوُّلاتها الجَليّة والخَفيّة. يعود هذا المنهج التفكيكي إلى القرن السابع عشر بعد أن دشّنه بيار بايل (1647 - 1706) في "معجمه النقديّ" القائم على انتقاد الأفكار الشّائعة وإظهار خطئها. ثم نضج وصار منهجاً مُتكاملاً مع جاك ديريدا (1930 - 2004)، وغدا يُطبَّق في مختلف العلوم الإنسانيّة بوصفه رؤيةً لا تنسف الأفكار من أساسها، وإنّما تظهر مدى تداخُل عناصرها.
وقد توزّعت المسائل الثلاثون المطروحة في هذا الكتاب بين حقول التاريخ والسّياسة والثّقافة والمجتمع، يستحضرها غوريس في قالب سؤال من قبيل: "هل الإمبراطوريّة العثمانيّة مثالٌ على الاستبداد الشرقيّ؟"، "هل الجيش حارسٌ للقِيم الكماليّة (نسبة إلى كمال أتاتورك)؟"، و"هل لعبت تركيا دوراً في تحرير المرأة؟"، و"لماذا تُعدُّ إسطنبول العاصمة الثقافيّة لتركيا؟"، ثم يقترح لها عناصر إجابة في حوالي ثلاث صفحات.
تتأتى النمطيّة من اتّصال تركيا بالإسلام ديناً وثقافةً
وكان غوريس يُجيب عن الأسئلة عبر إعادة رسم السياق الجيوسياسيّ الذي ساد العالَم خلال العقدَين الأخيرَين، وهو عين السّياق الذي يُفسّر التقلّبات التي طاولت الوضع الداخليّ، بما ذلك نشاط أحزاب المعارضة وسلطة الجيش، ودَور الأقلّيات وتغيُّر وضع الأكراد، إلى جانب الوضع الإقليميّ كالعلاقات مع دول الخليج العربيّ، وما يجري في شمال سورية، والمدّ والجَزْر مع الجار الرّوسيّ والاتّحاد الأوروبّي.
يُشدّد غوريس على أنّ الغاية من كتابه ليست امتداح التجربة التركيّة المعاصرة، ولا انتقادها أو التنديد ببعض إخفاقاتها، وإنّما إظهار مدى تشابك العوامل المشكّلة للنسق الثّقافيّ والسّياسيّ لهذه الدولة العِلمانيّة، وريثةِ الحُكم العثمانيّ، والتي عادت إلى جذورها الإسلاميّة بحثاً عن توازن صعبٍ وسط تحدّياتٍ في الداخل والخارج. ولذلك اجتهد الباحث في اتباع أسلوب توصيفيّ، يَذكُر الوقائع والأحداث بموضوعيّة ودقّة، ثم يربط بعضها ببعض لإدراك المنطق الداخليّ الذي ينظمها، لأنّ غرض كتابه، كما أكّده في المقدّمة، هو تسليط الضوء على العناصر المكوّنة للمشهد الجيوسياسي والثقافي التركيّ.
وقد وردت تحليلاتُه مدعومة بالكثير من الوثائق والنّصوص، والتي استقاها من التصريحات الرسمية لشخصيّات سياسية وثقافية إلى جانب المقالات الصحافية والنّصوص القانونية، كما استند إلى مراجع كثيرة باللغة التركية. ولا يسعنا هنا إلا التنويه بمئات الكتب والمقالات التي لم يستخدمها الكاتب، كتلك التي صدرت عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة، والتي باتت تشكّل اليوم رصيداً معرفيّاً ومنهجيّاً لا بدّ من إيصاله إلى المُتخصّصين في التاريخ التركيّ، ولو عبر التلاخيص، في انتظار ترجمتها.
كما ركّز غوريس على تنّوع الفسيفساء العرقيّة والدّينيّة والطائفيّة، والتي تُميّز الديمغرافيا التركيّة منذ قرون، والتي كانت محظوراً، عملت الجمهوريّة على تذويبه لإحلال قيمة المواطنة مَحلّه، لكنّه تنوّع سرعان ما طفا على السطح وتحدّى "الأيديولوجيا اللائكيّة" التي بسطت نفوذها منذ 1924. لكنّها أخفقت بسبب تعلُّق قِسم من الشعب التركي بأصوله الإسلاميّة، وهو ما يُخيف الاتحاد الأوروبيّ فيعمد إلى وضع شروط تعجيزيّة أمام انضمامه إلى تكتّله القارّي.
ويبقى من المشروع أن نتساءل عن طبيعة الجمهور الذي تعتمل فيه هذه الأفكار "النّمطيّة". المُخاطَب الرّئيس بهذا الكتاب هو القارئ الفرنسيّ، وهو قارئٌ محكوم بمجموعة من القضايا التي تهمّ مجتمعه بدرجة أُولى، وتنبع من قاعِ انشغالاته الاجتماعيّة والاقتصاديّة. ولا يعني ذلك أنّ القضايا التي أثارها الباحث هنا، كالعلاقة بين الدين والدولة وكالتنمية الاقتصاديّة والصّراعات الإقليميّة، مسقطة كلّها على الواقع التركيّ. إلّا أنّ جلّ الأفكار المُسبقة التي استحضرها هي وليدة تخوّفات فرنسا وتناقضاتها الداخلية ومشاكلها الذّاتيّة. فلو أخذنا، على سبيل المثال، الفصل المُخصّص للعلاقات الرّوسيّة - التركيّة، لوجدناه يعكس أكثر التخوّف الأوروبيّ من آثار تقلّباتها. ويُقال نفس الشيء عن الفصل المُخصّص لعلاقة الدين بالدولة.
وهكذا، فالمسكوت عنه في تحديد نمطيّة الأفكار هو اتّصالها بالإسلام ديناً وثقافةً، فجلُّ المسائل المطروحة في الكتاب وثيقة الصّلة به، غير أنّها لا تُطرَح عبر مصطلحات دينيّة مباشرة، وإنما عبر استعارات وتوريات غايتُها التلطيف، فالإسلام "عنصرٌ مُحرِج"، يُعلِّق به المخيال الأوروبّي محاذيره وأباطيلَه، يراه حاضراً في كلّ مكانٍ، بضرب من الهَوس ينتاب الخطاب اليميني وأحياناً الأكاديمي، رغم أنه ليس التفسير الأوحد ولا الأنجع لفهم الظواهر الجيوسياسيّة في تركيا، وفي غيرها من البلدان المُسلمة.
سجين رؤية جوهرانيّة للدين ترى فيه "عائقاً" للحداثة
وهكذا، بقي غوريس سجين رؤية جوهرانيّة للدين، ينظر من خلال المقولات التحليليّة للعقل الغربيّ الذي اختار الأفكار التي أراد مُناقشتها بحسب موروثه وواقعه، وهي لا تخرج عن المنطق الثّنائي، وتسعى دائماً إلى تحييد البُعد الديني الذي ترى فيه عائقاً أمام الحداثة السّياسية والاقتصادية، ولذلك لم تخرج الأفكار النّمطية التي عالجها طيَّ هذا الكتاب، عن تخوّفات لصيقة بذات الباحث وبلده أكثر من اتّصالها بموضوع الدّرس.
في العقدَين الأخيرَين، بات الشّأن التركيّ حقلاً معرفيّاً شاسعاً، قد لا تكفي التحليلات العامّة في تفكيكه ونزع طابعه الإشكاليّ، ولعلّه "إشكاليّ" فقط لأنّه خلخل مفاهيم الهيمنة الأوروبيّة، ولأنّه كسر المنطق الثّنائي - الضدّي الذي قُورب به هذا الشأن، فبقي حبيس تعارضاتٍ وهميّة بين الشرق والغرب، أوروبّا والإسلام، والعلمانية والدين، وهي ثنائيات تجاوزها النسيج التركيّ، وأبان عن عُقمها، ولعلّها من أكثر الأفكار نمطيّةً، وهي التي ينبغي البدء بتفكيكها قبل غيرها.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس
بطاقة
Benjamin Gourisse باحث فرنسيّ، من مواليد عام 1980. يعمل أستاذاً في "معهد العلوم السياسيّة" بتولوز الفرنسية. تفرّغ منذ ما يقرب العقدين لدراسة الشأن التركي، من أعماله: "الهيمنة السياسيّة في تركيا" (2022)، و"العنف السياسي في تركيا والرهان على الدولة" (2014)، و"فنّ الدّولة: مُقايضات الحركة السّياسيّة في تركيا منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية إلى يومنا هذا" (2014)، و"أفكار نمطيّة عن تركيا" (2023).