بلال الأرفه لي: عن صنعة تحقيق كتب التراث في أيامنا

22 يوليو 2023
بلال الأرفه لي
+ الخط -

بين حماس مفرط وأنواع من الهجر والنكران، تتراوح علاقة العرب المعاصرين بتراثهم. وبين هذا وذاك، ثمّة باحثون منكبّون على دراسة النصوص القديمة وإعادة تأهليها. في لقائه مع "العربي الجديد"، يتناول الأكاديمي اللبناني متطلّبات صنعة تحقيق الكتب التراثية.



■ لديك تحقيقات كثيرة لكتب من التراث العربي القديم. كمتابع غير متخصّص، يفاجئني ذلك، إذ يبدو لي تحقيق التراث حقلاً مهجوراً اليوم بعد ازدهارٍ في القرن العشرين. بدايةً هل هذا الرأي صائب؟ وما الذي يُغري باحثاً بالخوض في مجال التحقيق؟

- بالطبع، كانت حركة تحقيق التراث العربيّ في أوجها في القرن الماضي، وذلك إثر جهود في الغرب دعت إلى جمع المخطوطات العربيّة وتصنيفها وفهرستها، ومن ثمّ بدأ تحقيقها تحقيقًا علميًّا أمينًا كي تكون في متناول القرّاء عامّة. وربّما لم يعُد التحقيق مزدهرًا كما في السابق، لكنّه غدا برأيي عملًا نخبويًّا، إذ تنشغل بالتحقيق نخبةٌ من المتخصّصين في هذا المجال أو ذاك، فلا يحقّقون كلّ ما تقع أيديهم عليه، وإنّما ينتقون منه ما يتماشى واهتماماتهم البحثيّة. 

ولا أعرف إن كان تركيز الباحث الأكاديميّ على التحقيق، بما يتطلّبه من جهد ووقت، مفيدًا له دائمًا. وقد نصحني بعض الباحثين بالابتعاد عن التحقيق في بداية مسيرتي، وأنا على يقين أنّ نصيحتهم كانت صادقة، لكنّني مولع بالتراث ويؤلمني أن يبقى جزءٌ كبيرٌ من تراثنا العربيّ مخطوطًا. لقد نشرتُ مقالات وكتبًا عديدة، وغالبًا ما كانت دراساتي تنطلق من مخطوطات أو أعمال لم تُنشر بعد. أظنّ أنّ ما أقوم به يصبّ في مفهوم الفيلولوجيا الجديدة، أي أنّه يتعدّى بناء النصّ إلى فهمه ووضعه في سياقاته التاريخيّة والحضاريّة. الأمر أشبه بدراسة حضارة معيّنة من خلال النصوص، لا دراسة النصوص للنصوص نفسها. فالنصّ شاهد على عصره وبمقدوره أن ينبئنا بالكثير، شرط أن يتنبّه الباحث إلى القنوات المعرفيّة التي أدّت إلى وجود النصّ أساسًا وإلى تناقله حتّى وصوله إلينا. ناهيك بالكثير من النصوص التي غُيّبت أو فُقدت، وعلى الباحث أن يفكّر في ذلك أيضًا.

التحقيق صنعة صعبة، ويهاجمها أولئك الذين لم يجرّبوها

التحقيق صنعة صعبة، ويهاجمها أولئك الذين لم يجرّبوها. ولذلك أطلب من طلّابي أحيانًا تحقيق صفحة واحدة كي يختبروا ما يعانيه المحقّق، ويتلقّوا درسًا عمليًّا في التواضع. أتمنّى طبعًا أن يهتمّ الباحثون المعاصرون بالتحقيق، وكثير منهم يفعل، سواء في العالمين الإسلاميّ والعربيّ أو في أوروبا وأميركا؛ لكنّنا أيضًا بحاجة إلى أبحاث نظريّة ودراسات جادّة تطرح أسئلة جديدة. أحترم العمل الجادّ وأشجّعه سواء في التحقيق أم في غيره.


■ انطلاقاً من تجربتك، ما الذي تحتاجه "صنعة المحقّق" اليوم في سياقها العربي الراهن؟

- نحتاج الوصول إلى المخطوطات: إتاحتها ورقيًّا ورقميًّا، وقد اعتنت الكثير من المؤسّسات والجامعات بمجموعات المخطوطات في السنوات العشرين الأخيرة، وحقّقت تقدُّمًا هائلًا في ذلك. أمّا صنعة المحقِّق فتتضمّن مهارات خاصّة مثل معرفة قنوات البحث عن المخطوطات وتقييمها، ومعرفة المناهج المختلفة لتحقيق المخطوطات بما فيها المقارنة، ومناهج إضافة الهوامش والفهرسة، وربط النصّ بسياقاته الأدبيّة والتاريخيّة والمعرفيّة، علاوة على الإلمام بالدراسات ذات الصلة في المكتبات العالميّة، ومن المهمّ أيضًا الدراية بالمصادر العربيّة الأمّ، لا سيّما عند تخريج الأقوال والأمثال والأشعار والآيات والأحاديث الواردة في المتن.


■ ما هي الرهانات التي تضعها نصب عينيك وأنت تختار مخطوطاً للتحقيق دون غيره؟

- أركّز عادةً على الأعمال الأدبيّة في القرن الرابع الهجريّ/ العاشر الميلاديّ، وخاصّة أعمال أبي منصور الثعالبيّ ومعاصريه. وأهتمّ كثيرًا بالمؤلّفات الصوفيّة المبكّرة من رسائل ومصنّفات وتفاسير. ولكن يحدث أن يستهويني نصّ معيّن من فترة أُخرى أو من حقل معرفيّ مختلف عن الأدب والتصوّف؛ إنّ تحقيق هذه الكتب يكون أصعب بالنسبة لي، لأنّ عليّ أن أقرأ في الحقل المعرفيّ الجديد وأنظر في الأعمال التراثيّة المعاصرة والسابقة للنصّ. باختصار، يعتمد اختياري للمخطوط على القيمة المعرفيّة المضافة التي يمكنني أن أقدّمها في تحقيقه وشرحه والتقديم له، زد على ذلك الناشر وما يطلبه، والقارئ وما يحتاجه لتلقّي النصّ والتفاعل معه.


■ وأنا أقرأ سيرتك في موقعك الإلكتروني، شدتني معلومة تتعلّق بانطلاقك من دراسة الرياضيات. كيف قطعت المسافة من هذا الحقل العلمي النظري وصولاً إلى دراسات اللغة العربية وآدابها؟ وما الذي أفادت به الرياضيات مشاغلك البحثية؟

- لم أفكّر كثيرًا في هذا الانتقال، جاء الأمر طبيعيًّا. من الصعب أن يعرف الطالب ميوله المعرفيّة وهو في سنّ مبكّرة، وأنا لم أنشأ في بيئة أكاديميّة، والحرب اللبنانيّة صعّبت وصولي إلى الكتب والمعارف عامّة. جيلي لم يكن جيل الإنترنت.

تنقصنا المناخات التي تحفّز على التفكير والإنتاج المعرفيّ

أحببت الرياضيات والعلوم عمومًا، وقدّمت لي الكثير من حيث المنطق والتنظيم الفكريّ والعناية بالإثبات وبالجمال عمومًا، ولكنّ الفضل الأكبر في تكويني الثقافيّ يعود إلى بيئتي العربيّة والإسلاميّة التي ربّتني على تقدير التراث والاعتزاز به، وإلى "الجامعة الأميركيّة" في بيروت التي قدّمت لي عُدّة فكريّة ونقديّة لسبر أغوار التراث ومساءلته. نظام التعليم الليبرالي يقدّم لك فرصًا عديدة لاكتشاف مواهبك وميولك المعرفيّة وتكوين شخصيّة شاملة إلى جانب حقل تخصّصك.


■ كثيراً ما نسمع عن حجم ما بقي حبيس المخطوطات من تراث العرب. إذا توفرت الإرادة والإمكانيات، ما الذي سيتغيّر لو وجدت هذه النصوص طريقها للنشر وتغذية الثقافة العربية اليوم؟

- لا نعرف تحديدًا حجم المخطوطات العربيّة التي لم تُنشر بعد، يقدّر المسح العالميّ عددها بثلاثة ملايين مخطوطة وُضعت على مدار ثلاثة عشر قرنًا، لكنّ العدد الفعليّ أكبر من ذلك بكثير. من جهة أُخرى، فإنّ الكثير ممّا نُشر لم يحقَّق تحقيقًا علميًّا للأسف، ولم يُدرَس نصّه بشكلٍ كافٍ. لقد اهتمّ بالتراث الكثيرون في القرنين التاسع عشر والعشرين، من العرب وغيرهم، وقاموا بجهود جبّارة، خاصّة في ما يتعلّق بوضع النظم المعرفيّة لاستقراء التراث ودراسته وفهمه، لكن ما زال أمامنا الكثير لننجزه. ولا شكّ أنّ نشر هذه النصوص يغذّي الثقافة العربيّة، ويردم جزءًا من الفجوات التاريخيّة والمعرفيّة لدينا، وآمل أن يوصلنا ذلك إلى فهمٍ أعمق لماضينا ودورنا في الآداب العالميّة، وإلى إعادة التفكير في حاضرنا ومواقفنا من التراث، وإلى استطلاع مستقبلنا بصفتنا جزءًا أساسيًّا وعريقًا من الحضارة الإنسانيّة. 


■ هناك حضور للتراث على مستوى الثقافة الجماهيرية، في الدراما التلفزيونية أساساً، وبدرجة أقلّ ضمن شكل الرواية التاريخية. برأيك، على أية صورة يجري ربط العرب المعاصرين بتراثهم؟

- تتّسم مسألة التراث بحساسيّة مفرطة؛ إذ تُقاس بها عادةً درجة عروبة المتحدِّث أو مرتبة إسلامه. ويحلو للبعض أن يصنّف الناسَ ضمن ثنائيّاتٍ حادّة مضلِّلة: هؤلاء مع التراث؛ وهؤلاء ضدّه. لكنّ السؤال الحقيقيّ لم يكن يومًا: هل نحن مع التراث أم ضدّه؟ فالتراث الذي وصل إلينا يمتدّ فينا، ويحضر بأشكالٍ مختلفة في ذهنيّتنا ومخيّلتنا وذاكرتنا، ويتجلّى بصورٍ مختلفة في تصرّفاتنا وتعابيرنا وطرائق تفكيرنا، شئنا ذلك أم أبينا.

السؤال الملح هو: ماذا نفعل بالتراث؟ وليس: هل نحن مع التراث أو ضدّه؟

السؤال الأكثر إلحاحًا هو: ماذا نفعل بالتراث؟ وتتفرّع عن هذا السؤال أسئلةٌ أخرى كثيرة: ما موقفنا/ مواقفنا من التراث؟ هل نعيد إحياءه؟ هل نعيد تأويله؟ هل نبتعد عنه؟ هل نعلن موته نظريًّا أو شعوريًّا؟ ما الخيارات التي بين أيدينا في التعامل مع التراث؟ هل نستورد نظريّات من خارجه؟ هل نستخرج نظريّاتٍ من داخله؟ بأيّ وعيٍ نتعامل معه؟ لا توجد إجابات محدّدة عن هذه الأسئلة، فالاحتمالات كلّها مفتوحة، وينبغي عدم حصرها في خانة واحدة، فمشاريع استثمار التراث متنوّعة، ولكلّ منها حضوره القيّم على الساحة الفنّيّة أو الأدبيّة أو غيرهما.


■ مِن المؤلّفين القدامى الذين اشتبكت بنصوصهم، لو تقدّم لنا شخصية فتنتك وتود لو توصل صوتها إلى شريحة واسعة من القرّاء...

- يفتنني الكثير من القدامى والمعاصرين. من القدامى أبو منصور الثعالبي وابن فارس والجاحظ والمتنبّي وأبو نواس وأبو العلاء المعرّي وأبو حيّان التوحيدي، ولكنّي سأتحدّث عن الهمذاني. أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذانيّ (358 - 398هـ /959 - 1008م) مبتكر فنّ المقامة في أثناء إقامته في مدينة نيسابور في وسط آسيا عام 380هـ/ 990م.

على الباحث أن يتنبّه إلى القنوات المعرفيّة التي أدّت إلى وجود النصّ أساسًا

عُرف الهمذانيّ في عصره بـ "بديع الزمان" تقديرًا لبراعته اللغويّة الفريدة في هذا الأسلوب الجديد من النثر الفنّيّ، وعاش حياته في البلاطات يخدم أمراء الولايات الإسلاميّة ويؤنسهم، متنقّلًا بين مدن غرب إيران ووسط آسيا. ألّف الهمذانيّ المقامات للنخب الفكريّة في البلاط وأعوانهم، ولذلك تعكس مقاماته مجموع الاهتمامات الجماليّة والواقعيّة للمشهد الفكريّ الحيويّ والتنافسيّ. وتُخبر، عن طريق "حياكة" الرسائل النثريّة المزخرفة والأبيات الشعريّة، كيف يمكن للبراعة اللغويّة والحيلة أن تحفظا المرء وتحمياه في دروب الحياة الغادرة. الهمذاني مسكونٌ بالتراث ومسكون أيضًا بالحداثة والابتكار. من هذا المنطلق، يشبهني. لكن أظنّ أنّ علاقتي بمعاصريّ أفضل من علاقاته بمعاصريه.


■ وأنت تلاحظ من موقعك حال الأدب والكتابة الفكرية والفنون أو ما يصلك من أصداء هذه المجالات في مجمل العالم العربي، أيّ انطباع تتركه الصورة العامّة في بالك؟ هل يمكن القول إنّ ملَكات الإبداع في البلاد العربية بخير، أم إنّ العكس أصحّ؟

- ملكات الإبداع دائمًا بخير، لدى الشعوب العربيّة وشعوب العالم أجمع، طالما أنّها تتجدّد. فهي تولَد على الدوام في كلّ حضارة وكلّ زمن، في الشدّة والرخاء، في القوّة والضعف، حال التقدّم والتدهور. ولكن هل تُحقّق ملكات الإبداع في العالم العربيّ طموحاتها؟ وما الذي يحول دون ذلك؟

يضجّ العالم العربيّ بشعراء وروائيّين مرموقين، ولكن تنقصهم مقوّمات الدعم. فعلى سبيل المثال، يعمل الروائيّ في العالم العربيّ مهندسًا أو صحافيًّا أو غير ذلك، ثمّ "يكون روائيًّا" في أوقات فراغه، في حين يتفرّغ الروائيّ في العالم الغربيّ للكتابة أو يعمل أستاذًا جامعيًّا يدرّس الكتابة الإبداعيّة لطلّابه، وتبلغ مبيعاته للرواية الواحدة قرابة مليون أو مليونَي نسخة، فتكفيه مؤونة العيش عدّة سنوات. وفي العالم العربيّ أكاديميّون لامعون أيضًا، ولهم مساهماتهم البحثيّة القيّمة في مجالات كثيرة، ولكن تنقصهم صناعات النشر وغيرها من الصناعات المرتبطة بالبحث العلميّ، وتنقصهم المناخات الجامعيّة التي تحفّز على التفكير والإنتاج المعرفيّ.


■ من قراءاتك، لو تقترح علينا عبارة محبّبة إليك، معنَى وصياغةً.

- قول النفّري: "كلّما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، وقول سفيان الثوريّ: "أوّل العبادة الصمت، ثمّ طلب العلم ثمّ العمل به ثمّ حفظه ثمّ نشره".



بطاقة

باحث وأكاديمي من لبنان. عملَ على تحقيق العديد من كتب التراث العربي. يشغل حالياً منصب رئيس دائرة العربيّة ولغات الشرق الأدنى في "الجامعة الأميركيّة" ببيروت، وأستاذ "كرسيّ الشيخ زايد للدراسات العربية والإسلامية". من مؤلّفاته: "مقامات بديع الزمان الهمذاني: التأليف والنصوص والسياقات" (منشورات رايخرت، 2022)، و"فن الاختيار: أبو منصور الثعالبي وكتابه يتيمة الدهر" (منشورات بريل، 2016).

 
المساهمون