في لوحات الطبيعة الصامتة التي تعود إلى قرون خلت، نرى في كثير من الأحيان بعض الأغراض أو الأدوات التي لم تعُد تلزمنا في استخداماتنا اليومية. وهذا بالطبع لا يثير استغرابنا ما دمنا نُعاين بأنفسنا تطوُّر الأشياء مع مرور الوقت خلال حياتنا، لكن ما يثير الانتباه، بالفعل، هو أنّ هذه اللوحات تُصوّر لنا من الأزهار والثمار ما لا نميّزه تماماً، ومنها ما نعرفه، ولكن يبدو بمظهر غير مألوف لنا.
من هذه الأخيرة، ميّزنا البطّيخ، وكيف يظهر في اللوحات بلبّ شكل الأبيض فيه غريب بعض الشيء. كنّا نقول في السابق إن هذا ربما هو أسلوب الفنّان في التصوير، لكن الطريقة والدقّة التي يرسم بها عناصره الأُخرى تجعلنا نعود فنحتار في أمرنا.
يبدو أنّ اللبّ الأحمر القانئ الشهيّ في البطّيخ الذي نتناوله في هذه الأيام لا علاقة له ببطّيخ الماضي، على الأقل إذا نظرنا إلى البطّيخ الذي رسمه الفنّان الإيطالي جيوفاني ستانتشي في القرن السابع عشر، وكذلك معاصروه مثل جيوفان باتيستا ريوبولو وألبرت إيكهوت.
هذا ما تقوله مقالة تعود إلى العقد الماضي، فالأستاذ الجامعي جيمس نينهويس المختصّ في علم البستنة Horticulture في "جامعة ويسكونسن-ماديسون" بالولايات المتّحدة كان يُظهر لطلّابه دائماً تطوُّر الفاكهة وتحسُّن شروط زراعتها من خلال أخذ البطيخ مثالاً، ويستند في فكرته هذه إلى شكل هذه الفاكهة في اللوحات القديمة، كما في لوحة ستانتشي.
اختير حزّ البطّيخ لألوانه التي تؤلّف الألوانَ الأربعة للعلم الفلسطيني
ولكن هناك من يدحض هذه الفرضية، فشكل البطّيخ الهولندي أبراهام بروغل الذي يعود إلى القرن نفسه هو أقرب إلى بطّيخ هذه الأيام... أي إنّ هناك، ربّما، نوعاً آخر من الفاكهة تُشبه البطّيخ رسمها ستانتشي ومجايلوه قبل أن تختفي. وفي الحالتين، فإنّ معرفة كيف كان شكل فاكهتنا وخضرواتنا قبل قرون تستوجب حتماً العودة إلى المتاحف!
هذه المعلومة الطريفة التي تخصّ البطيخ تدعونا إلى التفكير في ثمار الأرض، وكيف تطوّرت لدينا لتُصبح رمزاً لشعب يرزح تحت الاحتلال.
فحتى وقت قريب، كانت شجرتا البرتقال والزيتون، في الأدب كما في الفنّ، هما الرمزان الكبيران لأرض فلسطين التي تركها الآباء لأبنائهم، وتعبّران عن هويتها. ففي تاريخ الفن الفلسطيني والعربي عامة، نجد هاتين الشجرتين محور عشرات، بل مئات من الأعمال الفنّية. ولم تُستعمل هاتان الثمرتان في الغالب في تصوير طبيعة صامتة تقليدية، بل هُما شجرتان تضرب جذورهما في الأرض تعبيراً عن الثبات أو البقاء.
ومن نوادر هذه الأعمال، نجد عملين للفنّان الفلسطيني سليمان منصور، صاحب "جمل المحامل"، وقد دمج فيهما الشجرتين في شجرة واحدة، نصف أغصانها زيتون والنصف الثاني برتقال: في اللوحة الأُولى شجرة تتشبّث بها امرأة، وفي الثانية شجرةٌ تتفيّأ بظلّها عائلة صغيرة.
لكن في الآونة الأخيرة، ولا سيما بعد عملية "طوفان الأقصى" التي بدأت في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، انتشرت فكرة تصوير البطّيخ (الأحمر) ليُصبح الرمز البصري الأكثر تداولاً، والذي يُعبّر عن الهوية الفلسطينية على حساب البرتقال والزيتون، فراح الفنّانون التشكيليون يصوّرون شرائح البطّيخ أو "حزوزه"، وكذلك استخدمها رسّامو الصحف والمواقع الإعلامية ومن يمارسون الفنّ بمساعدة الذكاء الاصطناعي في أعمالهم وملصقاتهم... كما لجأ روّاد مواقع التواصل إلى "إيموجي" البطّيخة باعتباره رمزاً يستعيضون به عن كتابة اسم فلسطين أو غزّة خوفاً من التضييق أو الحظر غير المعلَن من هذه المواقع على كلّ ما يمتّ بصلة إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيّته. أمّا لماذا حزّ البطيخ وليس كلّ البطيخة، فذلك يرجع إلى ألوانه التي تؤلّف الألوان الأربعة للعلم الفلسطيني.
يُستخدم رمز البطيّخة في مواقع التواصل للإفلات من الرقابة
هي في الواقع محاولة إبداع رموز بصرية يمكن للناس أن تتفاعل معها. وفكرةُ البطّيخ هذه تعود إلى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، ومن المضحك أنّ من نبّه إليها هو أحد ضبّاط الاحتلال، حينما حذّر فنّانين فلسطينيّين من رسم العلم أو الرسم بألوانه ولو كان الرسم لبطّيخة.
وقد كان أوَّل من رسمها باعتباره رمزاً معادِلاً للعلم لا أنَّه حبّة ثمارٍ، الفنّان والناقد الفلسطيني خالد حوراني في كتاب صدر سنة 2007 تحت عنوان "الأطلس الذاتي لفلسطين"، فنالت شعبية كبيرة من يومها.
وربّما تعود هذه الشعبية إلى بساطة الرسم الذي نفّذه حوراني بتقنية الشاشة الحريرية من جهة، وكوننا نعيش الآن في عصر "التريند" والموضة، حتى لو تعلّق الأمر بتناول الأحداث الجادّة، فجاءت البطّيخة تعبيراً طريفاً يناسب الموضوع، كما يُناسب المزاج العام من جهة أُخرى.
تتعدّد إذن صور رموزنا، لكنّ الهوية هي نفسها، تظلّ واحدةً وراسخةً في كلّ منها، وهذه حقيقة غير قابلة للطمس: فإن لم ينبت برتقال في يافا، نبت الزيتون في جنين أو الرمّان في نابلس، والنسوة سيذهبن بالتأكيد بأزيائهن المطرّزة للقطاف... وكما سيعود طلّاب البستنة إلى لوحات القدماء لرصد تطوُّر النباتات، سيعود المؤرّخون إلى لوحاتنا لتوثيق مراحل نضالنا، فيجدون أنّنا هنا كنّا، منذ أن وُجد الزيتون والبرتقال، متجذّرين. وإن هجّنوا لون البطيخ، فحتماً ستجد ألوان عَلمنا في مكان ما.
* فنّان تشكيلي سوري مقيم في ألمانيا