أن يكون المرء سياسياً و"يحبّه الناس"؛ فهذه عجيبة. وأن يكون وزيراً سابقاً ثم ينزل بملء إرادته عن كرسيّه، في بلاد مثل بلادنا لا يحمل فيها المسؤولون صفة "سابق" إلا بعد أن ينزلوا لقبورهم؛ فهذه أعجوبة أُخرى. ثم أن يكون تنحّيه هذا بسبب حبه للكتابة ورغبته في التفرغ والإخلاص لها؛ فتلك عجيبة الأعاجيب.
وكل هذه الإدهاشات تشمل حياة الروائي والشاعر الألباني بسنيك مصطفاي، الوزير السابق لخارجية بلاده، وبسبب فرادتها صارت أول ما يثير الانتباه إليه، بيْد أن الرجل - الذي جلس في الجمعة الماضي وللمرة الأولى أمام جمهور معرض القاهرة الدولي للكتاب - يتعامل مع كل ذلك بخفة تثير الإعجاب بالفعل، وإن كانت نبرته لا تخفي اعتزازه بما قدّمه، لكنه بتواضع أوجز الأمر في قوله إن "حالة التصادم داخلي بين الكتابة والسياسة جعلتني أختار الأنسب لي، فالأدب مثل سيدة محبوبة لا تقبل شريكاً. لقد انسحبت من المناصب رغم أني لم أخسر أي انتخابات ولم أُتهم بشيء، وظل الأمر غير مفهوم لعامة الشعب، بل إن شهرتي زادت باستقالتي".
نحن مسلمون أوروبيون بلا إحساس بالدونية أو التعالي
صاحب "طبل من ورق"، التي ترجمت للعربية وصدرت عن "دار الحوار" عام 2022، ومن قبلها "ملحمة صغيرة عن السجن" التي صدرت عن "الآن ناشرون وموزّعون" عام 2021؛ يبدو قريب الشبه بالريفيين في بعض قرى الدلتا، بوجهه الدائري الأبيض المشرب بحمرة. أما بملابسه غير المتكلفة وحقيبة ظهره، اللتين حضر بهما لقاء القاهرة، فإنه يشبه مواطناً بسيطاً يمكن أن تصدفه وهو "يُراجع" في إحدى الدوائر الحكومية العربية. ولهذا فيما يبدو صلة ببساطته وعفويته وعدم تحفظه في الكلام، كقروي عفوي، رغم مسيرته الدبلوماسية السابقة، إذ كان كذلك سفيراً لبلاده في فرنسا، قبل أن يشغل منصباً وزارياً مفصلياً في واحدة من أدق لحظاتها.
هذا عن الرجل نفسه، فماذا عن كتابته؟ هنا أيضاً لا تنقطع الدهشة، فمصطفاي الذي يجيد الفرنسية، ربما كأهلها، لا يكتب إلا بالألبانية، رغم ما تلقاه من عروض مغرية من ناشرين فرنسيين ليكتب بلغتهم، إذ سيتيح له هذا – كما أخبروه – انتشاراً أكثر، وبالتالي تحققاً أدبياً ومادياً أكبر. وعن هذا قال في حواره لـ"العربي الجديد" "الكاتب في لغته مثل السمك في الماء، فقط اللغة الأم هي ما تعطيك إمكانية للسباحة بحرية. إنما دخولك للغة أجنبية أشبه بوجودك داخل صندوق زجاجي في متحف للأحياء المائية (أكواريوم). من يكتبون بغير لغتهم الأم لا يدركون أن المهم هو أن يفهمك الناطقون بلغتك".
"إسرائيل" تُبيد الشعب الفلسطيني إبادة شاملة
وعلى منصة معرض القاهرة أضاف مصطفاي حكاية أُخرى لاختياره الكتابة بالألبانية ولسانه الطويل، حين استضافته القناة الثالثة بالتلفزيون الفرنسي، فاستدركت عليه المحاورة الفرنسية بأن ميلان كونديرا، التشيكي المولد، اختار التحوّل للكتابة بالفرنسية، فما كان من مصطفاي إلا أن أجابها بعفوية "كل ما كتبه كونديرا بالفرنسية يبدو سيئاً مقارنة بما كتبه بالتشيكية في السابق". يضيف مصطفاي "في اليوم التالي تلقيت اتصالاً هاتفياً من كونديرا وبّخني فيه قائلاً "صغير مثلك أنت سيقدم إليّ نصائح". فما كان مني إلا إجابته "كون قولي أغضبك لهذا الحد، فهذا يعني أنها الحقيقة"، فما كان منه إلا أن أغلق الهاتف في وجهي".
يوضح مصطفاي: "أما أنا فأحب أن أكتب بالكلمات التي أحتاجها، لا التي أعرفها فقط. ولغتي الأم هي التي تمنحني هذه المساحة الحرة والبيئة التي لن أجدها في مكان آخر".
جاء مصطفاي إلى القاهرة ووقّع أحدث ما صدر له مترجماً للعربية، وهي روايته "باسم الأم والابن" التي صدرت عن "دار الحوار" السورية بترجمة عدنان محمد، وهي مشغولة كباقي رواياته بتأثير الفترة الديكتاتورية إبان الحكم الشيوعي في بلده، والتي دامت 45 سنة. وعن أهمية ترجمته للعربية أوضح لـ"العربي الجديد" أن ما يجمع بلاده بالمنطقة العربية كثير، لا سيما أن الإسلام دخل ألبانيا بداية القرن الخامس عشر، كما أن بلاده خضعت للخلافة العثمانية كما المنطقة العربية. يضيف أيضاً أنه وإن كان مشغولاً في رواياته بالهموم الألبانية حصراً فإن الألم في كتاباته عالمي.
فماذا عن الألم الفلسطيني، ومعروف عن الرجل التزامه بالقضايا الإنسانية؟ أجاب مصطفاي "العربي الجديد" أن القضية الفلسطينية هي المأساة الكبرى، وأضاف "ما حدث في السابع من أكتوبر لنفترض فيه أن حركة حماس استفزت الجانب الإسرائيلي، لكن إسرائيل تخطت ما يقال إنه حقها في الرد"، ثم أوضح مشدداً "لا يمكن حل القضية الفلسطينية فيما إسرائيل تبيد الشعب الفلسطيني إبادة شاملة".
وكما لا يغيب عن مصطفاي التزامه الإنساني، لا يغيب بالمثل احترامه للمكوّن الإسلامي في هويته، ولا يعنيه كون أوروبا البيضاء ترى تناقضاً جوهرياً بين الإسلام وأوروبا، يقول "نحن مسلمون أوروبيون، لسنا لاجئين ولا مهاجرين. لا نعاني من إحساس بالدونية أو التعالي تجاه باقي أوروبا. وإذا كنا سننضم للاتحاد الأوروبي فإننا سندخله بكل طبقات هويتنا، بما فيها الهوية الإسلامية".
يختم مصطفاي حديثه قائلاً بجدية لا تخلو من تهكم عن التقارب الألباني العربي الغائب، إن بلاده كما بلادنا تنظران إلى بروكسل أو واشنطن، وليس إلى جيرانهما أصحاب العناصر الثقافية المشتركة والمتقاربة.
بطاقة
شاعر وروائي ألباني من مواليد 1958 في قرية تروبوجا بشمال ألبانيا، واتسمت تجربته بالمزاوجة الصعبة بين العمل الأدبي والنضال السياسي والعمل العام. تخرَّجَ مِن قسم اللغة الفرنسية وآدابها في جامعة تيرانا. اشتغل أوّلاً في التعليم ثم في صحيفة الحزب الشيوعي "صوت الشعب"، ثم مترجماً في "معهد الدراسات الماركسية اللينينية" (1983 - 1988)، لينتقل بعدها إلى اتحاد الكتّاب ويتولى رئاسة تحرير "الجريدة الأدبية".
كان بسنيك مصطفاي من أوائل المنضمّين إلى الحراك الديمقراطي في 1990، ومن مؤسّسي "الحزب الديمقراطي" الذي دعا إلى تفكيك الحكم الشمولي. في 1991، أصبح عضواً في أوّل برلمان ديمقراطي في البلاد، وفي 1992 أصبح أوّل سفير لألبانيا الديمقراطية في باريس. وفي 2005، أصبح وزيراً للخارجية، ليستقيل في 2007 من الحكومة و"الحزب الديمقراطي" احتجاجاً على ما آل إليه الحال مع رفاق الأمس.
أصدر أول مجموعة شعرية عام 1978 بعنوان "موتيفات فرحة"، ثم صدرت له مجموعات شعرية وروايات عدّة، من بينها "قصّة صغيرة" (1995)، وصولاً إلى رواية "حلم الدكتور" في 2017 التي سخر فيها من الطبقة السياسية الجديدة في مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية. تُرجم عدد من أعماله إلى الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية واليونانية. وفي العربية صدرت له ثلاث روايات: "ملحمة صغيرة عن السجن" بترجمة إبراهيم فضل الله، (الآن ناشرون وموزّعون، 2021) و"طبل من ورق"، (2022)، و"باسم الأم والابن" بترجمة عدنان محمد (2024)، وصدرتا عن دار الحوار.