قليلة جدّاً هي الكتابات المترجمة إلى العربية لكتّاب ألبان، إذ إنّنا تقريباً لا نستحضر إلّا اسم إسماعيل كاداريه الذي كان اسمه يرد بين الحين والآخر في ترشيحات نوبل للآداب؛ لكن بسنيك مصطفاي هو كاتب آخر لا يقلّ منجزه أهمّيةً عمّا قدّمه مواطنه كاداريه؛ فهو روائي وشاعر وسياسي معارِض، أصبح عضواً في أوّل برلمان ديمقراطي في بلاده بعد تغيير النظام الشيوعي، وشغل منصب سفير لها في فرنسا سنة 2005. وبخلاف كاداريه الذي كان مقرّباً من نظام أنور خوجا واستفاد من علاقته به، جاء مصطفاي من الموجة الجديدة التي أطاحت بالنظام ورسمت ملامح ألبانيا الحالية.
بسبب مشكلة الترجمة - المحكومة بالمركزية الغربية - لم تأخذ مؤلّفات مصطفاي القدر الكبير من الانتشار في العالم العربي. لكن، أخيراً، تُرجمت روايته "ملحمة صغيرة عن السجن" عن الألبانية مباشرة، وصدرت عن "الآن ناشرون وموزّعون" (2021) بتوقيع إبراهيم فضل الله، ما يؤشر إلى تغييرات لم تعد تنظر ما يفرضه أو يقترحه المركز الغربي. تتناول الرواية ثلاث قصص لثلاثة أجيال مختلفة: الجدّ، والحفيد، والسجّان. ثلاث تجارب عن السجن، عن الأثر النفسي والاجتماعي الذي تركته التجربة عليهم.
يقول فرويد إنّ التعذيب النفسي: "أشدّ قسوة من التعذيب الجسدي مع صعوبة الفصل بين التعذيب الجسدي والنفسي، حيث يصعب الفصل بين الجسد والروح، وإنّ آثار ذلك خطيرة على المدى الاستراتيجي على حياة ومستقبل السجين". وفي رواية مصطفاي عانى أغلب الأبطال من أثر نفسي سيئ بسبب المعاناة التي مرّوا بها داخل السجن. صوّرَ الكاتب قوّة السجن في الإطاحة بأعتى المناضلين وأشدّهم تماسكاً. لا يتعلّق الأمر فقط بالتعذيب البدني الذي يُمارَس على السجين، بل بالضغط النفسي أيضاً، وهو الأمر الذي يحطّ من قيمة الإنسان وتوازنه النفسي، فيصبح منصاعاً لأوامر السجّانين، محاولاً اتّقاء شرّهم. هذا ما حدث مع أوسو هوتا الذي انكسرت صورته داخل السجن ولم يبق منها إلّا ما يتناقله الناس عنه خارجها.
ثلاث قصص عن السجن أبطالُها من ثلاثة أجيال مختلفة
أما الابن فقد كان يحمل صورة لامعة عن والده البطل، والتي التقطها واحتفظ بها أهل قريتهم. لكنه، عند زيارته السجن، لم يجد تلك الصورة اللامعة؛ إذ رأى فيه شيخاً هزيلاً، ضعيف البنية كسر السجن من هيبته ووضع بدلها علامات الوهن والعجز والمهانة. في ذلك اليوم، أقسم الابن ألّا يعود إلى السجن ثانيةً، وألّا يرى والده مجدَّداً.
لم يقتصر الأذى النفسي، الذي أصاب عائلة هوتا، على الجدّ فقط، بل عانى الحفيد بارذيل من الأمر نفسه عندما دخل هو أيضاً السجن؛ فزيادة عن الضغط النفسي الذي تعرّض له من قبل السجّانين، عانى أيضاً من الشكوك التي زرعها داخله زملاؤه في الزنزانة، فعندما حان موعد زيارة زوجته له بعد أحد عشر شهراً من سجنه، وجد نفسه مكبّلاً أمامها، عاجزاً عن الاقتراب منها، فقد كان عقله يصوّر له وجود أشخاص معهما في الغرفة. وهكذا انقلب المكان من مساحة كان يجب أن تكون حميمية إلى ما يشبه غرفة للمجانين تكبر فيها هلاوس البطل وشكوكه.
ليندا، زوجة بارذيل، عانت هي أيضاً من قسوة السجن بشكل غير مباشر، إذ مارست عليها والدتها ضغوطاً كبيرة لتمنع زواجها من حبيبها. أرادت لها زوجاً يسكن مدينة لا سجن فيها، خوفاً من أن تُعاد حكاية حكمت هيدي، جدّ ليندا، ذلك السجّان المنسي. ولم يقتصر الأثر السلبي الذي يتركه السجن على السجناء فقط، بل تعدّاه إلى السجّانين أيضاً. وجد حكمت هيدي نفسه وحيداً داخل زنزانة دون نزلاء، فبدأ في جمع الحجارة ووضعها في الداخل بديلاً عن البشر، فاتّهمه من حوله بالجنون.
لم تكن تجربة بسنيك مصطفاي في الكتابة تجربة شخصية فحسب، بل هي تجربة إنسانية جماعية نقل فيها الأثر الذي يتركه السجن على السجين وعلى من يحيطون به بشكل خاص. لم يتناول السجن بوصفه مكاناً ضاغطاً على الجسد فقط، بل تعدّى ذلك إلى ما هو نفسي، حيث يفقد المسجون اتّزانه وقوّته وتماسكه؛ فالسجن الذي يصنعه الإنسان لنفسه جرّاء اعتقادات أو أوهام تكبّله وتحدّ من حريته أقسى بكثير من السجن في زنزانة.
رواية عن الأثر النفسي والاجتماعي لتجربة السجن
اتّسم العنف الموجود في الرواية بنسق تصاعدي، متجاوزاً العنف الذي تمارسه الدولة على الأشخاص من خلال حبسهم، إلى العنف الذي يمارسه الإنسان على أخيه الإنسان، سواء بزرع الإشاعات أو بمنعه من حقّه في الاختيار، أو اتّخاذ قرارات مصيرية بحياته، وهو عنف أقوى حتى من الذي تمارسه دولة على دولة أُخرى أضعف منها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
لم تغب روح السياسية عن الرواية إطلاقاً. وذلك جليّ من خلال التقسيمات الزمنية التي عاشها أبطالها؛ حيث انعكست، هي الأُخرى، على المراحل السياسية التي عاشتها ألبانيا، فقد مرّت بثلاث مراحل سياسية مهمّة: الفترة الملكية قبل أن تتعرّض للاحتلال الإيطالي قُبيل الحرب العالمية الثانية. هنا انقلبت الأدوار فأصبح الجلّاد ضحيةً لقوّة صاعدة أخذت مكانها عن طريق قوّة السلاح والترهيب. بُعَيد الاحتلال، أصبحت ألبانيا بلداً شيوعياً حتى سنة 1990، ويمكن وصف سلطتها بالسلطة التصاعدية مثلما أسماها ماكس فيبر؛ حيث تنبثق الهيمنة من الأسفل الى الأعلى.
على عكس فيبر، لم يكن فوكو مهتمّاً بأساليب الوصول إلى السلطة بقدر اهتمامه بكيفية تحوُّل السلطة إلى وظيفة عضوية حيوية يشارك فيها الجميع ولا يمكن للجميع المشاركة فيها إلّا إذا كانت الدولة والمجتمع قد بلغا مرحلة عالية من التطوُّر. عاشت ألبانيا هذا التطوُّر من خلال الحرية التي تمتّعت بها إثر انتقالها من حكم شمولي إلى حكم ديمقراطي عبر أوّل انتخابات ديمقراطية شهدتها في تاريخها، وكان بسنيك مصطفاي من أبرز قادتها، وهي المرحلة السياسية الثالثة في ألبانيا والرواية على حد سواء.
* كاتبة من تونس