بازوليني: كمن لم يذهب إلى مدرسة

12 مارس 2022
بازوليني خلال تصوير فيلم "ديكاميرون" في روما، 1971 (Getty)
+ الخط -

لا تعرف الروائية الإيطالية داتشيا مارايني ما سيكون عليه موقف صديقها بازوليني لو أنه شهد، في مئوية ميلاده (1922)، اجتياحَ روسيا لأوكرانيا. لكنها تعتقد أنه "سينحاز فوراً إلى جانب المضطهدين"، فقد "كان شديد الحساسية في هذا الصدد".

مارايني (86 عاماً) وبازوليني صديقان منذ ستّينيات القرن الماضي. التقيا ضمن مجموعة أصدقاء يتعاركون ويتّفقون في آرائهم التي شهدتها مطاعم ومقاهٍ رخيصة، وتوطّدت صداقتهما وسافرا معاً إلى اليمن وأفريقيا، بعد أن طَلب منها الاشتغال معه في كتابة سيناريو فيلم "الليالي العربية" الذي خرج إلى الصالات عام 1974، ضمن سلسلة "ثلاثية الحياة" التي بدأت عام 1971 بفيلم "الديكاميرون"، واستُكملت مع فيلم "حكايات كانتربري" (1972)، وجميعها نصوص مؤسِّسة في السرد من القرون الوسطى.

كلّ الذين أحبوا بيير باولو بازوليني أو كرهوه يعرفون كم كان ظاهرةً حارقة تمشي على قدمين، حتّى جاء يوم الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1975 وقُتل وشُوّه جسده.

كان المخرج الإيطالي ظاهرةً حارقة تمشي على قدمين

لم يشاهد العرض الأوّل لفيلمه الأخير "سالو، أو "120 يوماً من سدوم" بالغ القسوة. كان موته ضرباً بالعصيّ وقضبان الحديد وتحطيم عظامه دوساً بسيّارة الألفا روميو عدّة مرات؛ إحدى النهايات التي كان يهجس بها بازوليني، فظهرت قريبة من حاشية الفيلم، وثائقية، بصور فوتوغرافية بالأسود والأبيض للجثّة، وسريالية.

كلّ المحبين والكارهين يمكنهم استحضار شخصيّة مؤثرة في مئويّتها، لكي يُبدوا اعتقادهم بما ستقوله الشخصية الآن. هذا يعني أن عشرة أشخاص سيقترحون، وسيجدون حتماً عشرة أسانيد تدعم توقّعاتهم.

"تتفوّق الديمقراطية على هذا (حُكم الفرد)، لأنها تنظّم المجتمع كشبكة من السلطات المختلفة، وكلّ منها يسيطر على الآخر"، تسترسل مارايني. بيد أن بازوليني ذا الوجه المرسوم بريشة فنّان تكعيبي لم يكن يصلح للمراهنة في أيّ استقطاب سياسي دون أن ينغّص عيش الأفكار العمومية. هو ذاته مَن وقف ضدّ المظاهرات الطلّابية عام 1968، بوصف الطلّاب ذوي نفَس برجوزاي، بينما أفراد الشرطة من الفلّاحين الفقراء. وهو الذي نادى "عليّ" الجزائري وأهله في قصيدة "عليّ ذو العينين الزرقاوين" ورآهم يقطعون البحر المتوسط و"يتجهون كالغجر، نحو الشمال الغربي، ملوّحين بالرّايات الحمراء التروتسكية".

بفارق بضع سنوات بين فيلمه الأوّل، "أكاتوني" (1961)، والثاني، مباشرةً في العام الموالي، "ماما روما"، يُصدر هربرت ماركوزه كتابه الشهير "الإنسان ذو البعد الواحد". إحدى شخصيات بازوليني تقول بتهكّم إن "لنكولن حرّر العبيد في أميركا ونحن بدأنا العبودية في إيطاليا".

عاش مسكوناً بحرب ريفية خشنة ضدّ الرأسمالية والفاشية

كانت الأفكار تتصاعد في وطيس ديمقراطي لمجتمعات أوروبا الغربية، ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها نظر ماركوزه إلى مَن يختارون بشكل حرّ، لكنّها حرّية بحسبه "منظّمة من قبل مجموع اضطهادي"، حيث "قدرة المرء على اختيار سادته بحريّة، لا تُلغي لا السادة ولا العبيد".

بعد أربعين عاماً بالتمام والكمال من مقتل بازوليني، يأتي الفيلسوف الكندي آلان دونو بكتابه "نظام التفاهة" (2015)، أي بعد أن انتهى اليسار المتطرّف واليمين المتطرّف في إيطاليا من التنكيل ببعضهما فيما عُرف بـ"سنوات الرصاص"، من أواخر الستّينيات حتى أواسط الثمانينيات، وصار ناتج البلاد مرتاحاً يفيض عن الترليونَيْ دولار، وبات غير مفاجئ في هذا النظام أن تقرر جامعة من طراز "بيكوكا" (ميلانو) في 2022 وقْف تدريس تراث دوستويفسكي الروسي. لماذا؟ "لتجنّب التوتّرات الداخلية في هذه اللحظة من السياسة الدولية"، وفق الرسالة التي تلقّاها الأستاذ الجامعي باولو نوري، وكشفها في فيديو على "إنستغرام"، تلاه تراجع الجامعة عن قرارها.

ظاهرة بازوليني الذي عاش 54 عاماً بُني بعض منها على قراءته دوستويفسكي. عاش مسكوناً بحرب ريفية خشنة ضدّ الوحش الرأسمالي، وضدّ الفاشية، والكنيسة التي وصفها بـ"حليف الشيطان"، بل إنه رأى عام 1973 في إعلان "جينز يسوع" الذي يكتب على مؤخّرة شابّة "مَن يحبّني يتبعني" عقاباً جديداً للكنيسة.

أثار بازوليني كذلك سخط الشيوعيين، رفاق الدرب، الذين انتقدوا أوّل أفلامه، "أكاتوني"، إذ جعل بطل المسحوقين قوّاداً، والنساء يلجأن للبغاء بحثاً عن لقمة الخبز، دون أن يرفّ جفن "المعجزة الاقتصادية" الإيطالية.

تحوّل إلى ظاهرة خرجت من محلّيتها إلى العالم الذي تأثّر به

الشاعر والمخرج السينمائي والشيوعي الذي فُصل من الحزب، وظلّ على وفائه لغرامشي، والمنظّر في سينما النثر والشعر، والصادم دائماً، تحوّل إلى ظاهرة خرجت من محلّيتها إلى العالم الذي تأثّر به، سواءً حين قَبِلَ منتجه أو رفضه.

إن فيلمه الأخير "سالو، أو "120 يوماً من سدوم" محظور من العرض في بلدان كثيرة في العالم، ومنها أوروبية. فهو ليس فيلم رعب خياليّاً، بل إعادة إنتاج رواية بذات الاسم لماركيز دو ساد، وتدور وقائعها عام 1945 في شمال إيطاليا، متجاوزاً حدود الانتقام والتنكيل بالناس، إلى جعل بضعة مراهقين حقل تجارب للمتعة السادية، بما في ذلك التعذيب والاغتصاب واقتلاع العين وقطع اللسان وسلخ فروة الرأس.

إذا جاز لنا أن نستدعي أمواتاً غير بازوليني ليقدّموا شهادتهم، فهذا هو إنيو موريكوني الذي طبقت موسيقاه الآفاق. مَن ينسى موسيقى أفلام الويسترن سباغيتي مثل "حدث ذات مرّة في الغرب"، و"الطيّب والشرس والقبيح" ـ أو فيلم "سينما باراديزو الجديدة"؟ كان موريكوني متقزّزاً من مَشاهد "120 يوماً من سدوم" وقال إنه شارك في موسيقى الفيلم فقط، لأن بازوليني صديقه، ولم يشأ أن يرفض طلبه.

في عام 2004 كان عمر موريكوني 76 عاماً وبصحّة جيّدة، وشاهد كما شاهد العالَم فضيحة سجن "أبو غريب". لم يكن بازوليني يتحدّث عن زمن ماضٍ، بل غرائز لم تُترك حتى على طبيعتها، إنما جعلها الإنسان الحديث ــ كلّما تقدّم زمنه ــ شهوة دموية أعنف في سراديب، بينما رجال لامعون بربطات عنق يظهرون على شاشات التلفزيون ويقولون كلاماً آخر.
هذا هو الوحيد بين النصوص البصرية لذوي ربطات العنق اللامعين الذي لا يمكن أن يرفق باحتراس +18، رغم أن الحديث عن "المجتمع الدولي" و"حقوق الإنسان" في هذا المقام يصبح شكلاً من أشكال الإباحية.

في عام 2012، يستلهم فيلمٌ إيطالي نبوءةَ الشاعر لعابر البحر ذي العينين الزرقاوين الذي سيحطّم مع أهله روما و"سيلقّن البرجوازيين مباهج الحرية". يحمل الفيلم عنوان القصيدة ذاته، "علي ذو العينين الزرقاوين"، وسيكون هنا العربي المصري المولود في إيطاليا والقلق بين هويّتين، بعينين زرقاوين لكنّهما عدستان لاصقتان يغطّي بهما عينيه البنّيتين.

في عام 2022 يقول ديفيد ساكفاريليدزي، نائب المدّعي العام الأوكراني السابق، في حديث إلى شبكة "بي بي سي"، إنه يرى "أوروبيين بعيون زرقاء يُقتلون". فيردّ المذيع: "أتفهّم المشاعر وبالطبع أحترمها".

هذا هو نهر بازوليني، حيث كانت السينما على يديه لغة متدفّقة وبرّية. دخل عالم السينما عن طريق الشعر والسيميولوجيا والصراع السياسي والفولكلور والجنس والفقر المدقع وتفسّخ العائلة، ليبدأ منذ 1965 التنظير للسينما الجديدة، مواصلاً الإنتاج المحموم لأفلام حرّة، كان فيها - بوصف المخرج برناردو بيرتلوتشي - "كمن لم يذهب إلى المدرسة وعليه أن يخترع الكتابة".

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون