بابلٌ من الأسماء

24 ابريل 2022
(یوانا أمینیان جَزي)
+ الخط -

بابل من الأسماء

1

بَدا وكأنه...
نبحَ روحَه خارجاً
في حلمِ كلبٍ،
لم يكن هناك رجعُ صدىً،
لا جنّاتٌ ولا سعير،
لا فجواتٌ ضحلةٌ
حيث يمكن الاتِّكاء.

أستراخان، 30 يوليو 2014


2

إسطنبول، أين لِحاكِ المُصْمَتةُ
المولودةُ على شيْبها الحريريِّ كلماتٌ،
كلماتٌ مزّقت صداها الأحلامُ،
أحلامٌ هي أحمرُ مسكوتٌ عنه
من أعشابٍ عفنةٍ لشفاء الأمل
من الأزرق المُحتضَر؟

خطواتُ مَن تلك التي ما زالت تُسمع؟
خطواتُ لُغاتٍ أمّ؟
خطواتُ مسيرٍ مقمرٍ نحو المقبرة؟
خطواتُ رقاب النمرود الألفِ المحطّمة؟

موسيقاك يا إسطنبول مذهلةٌ
وفوق ذلك عطاؤها جزيل...
تحت أضرحة الضوضاء، مرةً،
عَثرْتُ على لغزك الأزرق.

إسطنبول، 14 فبراير 2016


3

فصيلٌ ذئبيّ جديد مروّض عواؤه، ابنُ أخت البرد،
يُسرع الخطو نحو الفتحة الوحيدة في السماء،
قِطَعٌ صغيرةٌ من الماضي تنتظر في زاوية قسريّة،
هناك، حيث النار والجنة أَلِفَتا هذا العالم.

بابلٌ من الأسماء،
نصف هذا، نصف ذاك
تُربك الروحَ ليلاً ونهاراً
لحمٌ آدميٌّ بنفسجي، شكلُه مخروطيٌّ
يَبرزُ من خلال الجلد،
أيدي طفلٍ تترك علامات حمراء
تنطبع كوشمٍ خلال الليل
على ضميرٍ مستقبلي.
وقائعُ، كأنها نهر، تسيل قُدُماً ووراء
عبر نوافذ منغولية.
(بدأتُ أشعر كم هي مختلفة).
كلُّ هذا لطالما أمكنني، وسيظلُّ بإمكاني، وتمكن رؤيتُه.
لكنْ، لا شيء يمكنه أن يبقى مجهولاً:
المسافرون بلا رؤوس،
أكتافٌ ناعسة خلال اليوم،
صدورٌ مضطربةٌ خلال الليل،
أشباح بابل،
ذبذباتٌ لا تُحتملُ، يصعُب النطق بها،
مثلَ عواءِ فصيلٍ عبر زجاج منغولي ذي طبقتين،
لا يُرى، كمثل ظلال بنايات على أعشاب أولانغوم
في ليلة عاديةٍ من زمنٍ حديثٍ متأخّر.


4

الظلالُ على وجهها علِقَت
خلال صعودها
مراثي ضريح الأقدار
المُشفّرة على بطائن الرغبات القديمة
التنقيبُ عن دروبِ لُبانةٍ جديدة لخلايا ميتة
في صعودها للهواء ليلاً،
عندما ينتظر القمرُ موسمَ تزاوج الصوت
قبل مقدم أبرد ليلة لليأس الأخير.
...
صمت!
...
الآن، ترقص الظلال على وجوهها
ناسيةً السباق المعبَّد بالوحدة.

أصفهان، مطلع يناير 2018


■ ■ ■


الانسلاخ

1

تصبح الكتابة منعزلةً
كالبيوت أعلى التلة.
مرعبٌ تركُ الكلاب خارجاً في الليل،
جبنٌ مواجهة ورؤية الطواحين.

ما يزال الجنونُ يهبط درجات السُّلّم
يقصد السردابَ حديثَ النحت،
حيث يتشارك العمالقة الآن تنفّسهم البالي
مع نقائصهم الإنسانية.

ألا رُبَّ امرئ يفحص مستودع الجثث هذا
قبل أن تتعفن الكلماتُ إلى ذكرياتٍ ماضية،
قبل أن يتقادم كلامُ السنين،
قبل أن يضع الحِسُّ نفسه في قالبٍ، ويزفرَ الصوتُ
شهقته الأخيرة.

فيينا، 11 أكتوبر 2018


2

هناك حسٌّ من الحقيقة في الكذب على النفس،
حسٌ دائري، حسٌّ دامٍ من العروق،
يحمل كل هذا المضمون إلى الكلّ ويؤوب بها راجعاً،
وفي طريقه، يرتطم بذكرياتِ الخلايا
- تلك التي أُفرغت الآن، من كل الفرح والغرور-
ذكرياتُ اللّمسات، ارتجافةُ غمزةٍ في الوقت المناسب،
خفقةُ قلبٍ أسرع، رعشةٌ في نخاعِ العظم،
طردُ فكرة،
إيقافُ كاملِ الحزن،
وفي أوقات، تداعي الكبدِ تحت وطأة الحب،
وجفافُ الكلمات والمرايا
من أجل ارتعاش جميع الجسد ومكابدات الفكرة.
هناك حقاً حسٌّ من الحقيقة في الرجوع إلى النفس
فقط إن كان من أجل مجرد السفر...

فيلدرو، رومانيا، 2 أغسطس 2021


3

في انتظار وصول خبر موت أبي
إلى أيِّ درجة يمكن للابنة أن تكون أمينةً وصادقة؟
إلى أي درجة يمكن للروح أن تكون في لحظات اللّا رجوع؟
ابنة فقط هي من تستطيع معرفة وجع الابنة...
ما هذا التشوق لسماع هذه الصرخة المرعبة؟
ما هذا الوجع الذي لا يُطاق للحياة؟
هل هو التوقُ إلى العالم الآخر؟
هل هي رغبتي في معرفته، وهو في سلام؟
أم هي لذّةُ الشعور بالقرب منها؟
صوتها، رائحتها، ترحالاتها في الحياة، لمستها الجامدة التي لا تَرحم؟
رغبتي في لقاء محبوبي، قبل الموعد، عَبْرَهُ، ذاك الذي بزغت منه؟
أم أنها باحة اليأس، الطافحةُ بالمسافة، حيث أُوْقد قلبي يومياً في ألسنة اللهب،
من أجل أن يرى هو الدخان، ومن أجل أن تأخذه هي بلطفٍ إلى نيْرها الأبدي؟
هل هو خوفي من رؤية كليهما،
عينيها الساحرتين، تحديقِه الغائب البارد؟
كيف يمكن لابنة أن ترى عَبْرَ الوجع؟

فيينا، 5 يناير 2202


4

لم أعدْ للبيت من فترة،
لم أدخّنْ زواياه ولا غُرفه خلال الربيعات الماضية،
لم أعدْ أهزّ السجادات مطلقاً
ولا أغسل أرضيته بمحلول قلويّ، كما علّمتني أمي، قبل عهد طويل.
لم أنحنِ في حدائقه.
ضيوف من جميع مشارب الحياة
تبختروا عبر غرفه،
أحياناً يستقرّون في إحدى زواياه.
أولئك الذي كانوا مرّة يرعَونني حرّروا أنفسهم:
أصبح الحنقُ راعي الضيوف،
يحتضن الأسى الجميعَ فور وصولهم،
يؤنّبُ الفرحَ بسبب حماسه الطفولي في أكثر اللحظات حرجاً
تجهّز الرصانةُ ثيابَهم، يُلبسهم إياها الغيابُ،
يقودهم الصمتُ إلى غرفة الطعام،
يطعمهم الخضوعُ، يسلّيهم الإعياءُ،
يصاحبهم الوعيُ عند الغسق.
الأملُ القديم، المسؤول عن إطفاء الأنوار، يضعُ كلّاً في سريره.
النسيانُ اللطيف يسرد عليهم حكاية خيالية، ليُجَمِّل عتمتهم...
كم من ضيفٍ دخل غرَفه مذ غادرتُ؟
كم سيكون قد تغير مظهره، رائحته، روحه؟
وكيف لي أن أعود؟
كيف أفسر رحيلي؟
كيف لي أن أدلف إلى شرفته،
تلك الابنة في طريق كلّ أحد...؟

فيينا، 25 يناير 2022


* ترجمة: مصعب أبو توهة



بطاقة

Ioana Aminian Jazi شاعرة وباحثة رومانية مختصّة باللغات المهدّدة بالزوال. درست الترجمة في ألمانيا، ثمّ تخصّصت في لسانيات اللغات اللاتينية في فيينا، حيث تقيم اليوم بعد مرورها بأصفهان (الصورة) وإسطنبول. الشعر بالنسبة لها لغة ثانية، ونقطة انطلاق صوب التعدّدية اللغوية. تستكشف قصائدُها التعبير بلغات مختلفة، وتستلهم تجارب العيش بين الشعوب، وترى أنّ الإبداع  في تصوير جوهر الأشياء يكمن في التقشّف بالكلمات.

المساهمون