في كتابه "خارج المكان" (دار الآداب/ ترجمة فوّاز طرابلسي)، يروي إدوارد سعيد أنَّ محامياً يهودياً أميركياً زعم أنّه أمضى ثلاث سنوات وهو ينقّب في السجلّات القديمة - وهي سجلّات فلسطينية، بالطبع، استولت عليها "إسرائيل" وضمّتها إلى أرشيفها - عن حياته المبكّرة، أي حياة إدوارد سعيد، وأنّ تحرّياته خلصت إلى أنّ سعيد ليس فلسطينيّاً.
يصف سعيد تلك التحرّيات بالزائفة، ويعلّق بأنّ غاية الباحث اليهودي إثبات أنّ الفلسطينيّين كذّابون، ولا يمكن الثقة بهم، ولهذا فإنّ ادعاءاتهم بملكية أرض فلسطين كاذبةٌ أيضاً. ويمكن أن نضيف إلى فكرة سعيد فكرة أُخرى لا تقلّ أهمية لدى أعداء فلسطين، وهي فكرة نزع الجنسية عن سعيد وغيره، إذ لا وجود لما يُسمّى فلسطيني كما يريد أن يثبت ذلك المحامي. ففكرة قيام دولة "إسرائيل" التي روّجها الاستعمار البريطاني والصهاينة هي أنّ فلسطين أرضٌ بلا شعب، فمن أين يأتي أيُّ فلسطيني بهذا الانتماء؟
سبق للمؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابه أن ألّف كتاباً عنوانه "التطهير العرقي في فلسطين". والترجمة العربية لكلمة التطهير في عنوان الكتاب يجب أن تُفهم كما يريد الإسرائيلي تسويقها؛ فهي تَعني في العربية "الإزالة" أو "الإبادة"، أي أنّ الإسرائيليّين استخدموا العبارة كي يُقنعوا العالَم أنّهم يقومون بعمليات تنظيف وتعقيم للجنس البشري.
وجود الفلسطيني هو الحقيقة التي تمنع كذبة أرض الميعاد من الانتصار
المشكلة أنّ العالَم، وأخصُّ العالَم الرأسمالي، صدّقهم، أو أراد أن يُصدّقهم، وأنّه لا يزال يُصدّقهم، أو يريد أن يُصدّقهم، وثمّة قادة دول مستعدّون للدوس على كلِّ المبادئ والقيم التي ينادون بها من أجل إثبات مقولة ضرورات التطهير، لا في زمن نشوء "إسرائيل" وحسب، بل في كلّ زمن أعقب ذلك، كما نرى في زمننا الحاضر اليوم أيضاً.
ولقد تحوّلت هذه الكذبة إلى دولة مسلَّحة بالطائرات والقنابل والتأييد من أكبر دولة في العالم، هي أميركا. وهذه الدولة تبدو هي المسيطر الأقوى على أقدار الشرق، إذ يَحسب الجميع حساب تفكير قادتها، وأساليبهم السياسية والعسكرية، وقد صارت في السنوات العشر الماضية نوعاً من "قبضاي أزعر" يتجوّل حاملاً عصاه التأديبية، ويضرب بها يميناً وشمالاً دون أن يعترض أحدٌ على نشاطه أو يمنعه، عدا الفلسطينيّين.
وعلى الرغم من انعدام التكافؤ في القوّة العسكرية التي قد تبقى القوّة الوحيدة التي يمتلكها الصهاينة في ظلّ بداية رفع الغطاء الأخلاقي والإنساني والفكري عن وجود الكيان المحتلّ في الرأي العام العالمي، فإنَّ الفلسطينيّين وحدهم، بروح المقاومة التي لا تنطفئ، ولا تنهزم، هم الذين يُبقون قضيتهم متوهّجة، ويتحدّون صلف المحتلّ.
ولهذا فإنَّ تركيز الصهاينة على الفلسطينيّين يحمل دلالات عميقة على شعورهم بأنَّ هؤلاء فقط هُم الذين ينافسون على الوجود، إذ إنّ يقينهم بأنّ الفلسطينيّين هم شعبُ هذه البلاد، لا يُداخله أيّ شك، وربّما كانوا في هذه الناحية أشدّ ثقة بذلك من بعض العرب، ولهذا فإنّ إصرارهم على موضوع الترحيل والطّرد والاقتلاع مركزه الأساسي هو الفلسطيني فقط، ذلك أنّ وجوده ووجهته الدائمة هي فلسطين، هو الحقيقة النهائية التي تمنع الكذبة التي اخُترِعت عن أرض الميعاد، أو عن الشعب اليهودي، وغيرها، من الانتصار النهائي.
* روائي من سورية