النصّ المقدَّس في ثوبٍ لغوي آخر

14 ابريل 2023
من مخطوطة قرآنية تعود إلى القرن 15، محفوظة في مكتبة أمبروسيانا، بميلانو، إيطاليا (Getty)
+ الخط -

في روايات عديدة عن مؤرّخي الإسلام، يُحكى أنَّ الفُرس، عندما بدأوا يدخلون في الإسلام، كانوا يسألون الصحابي سلمان الفارسي أن يكتب لهم سورة الفاتحة باللغة الفارسية، أي أن يُترجمها، فقام بذلك. ليست هناك أيّة رواية تاريخية تقول إنّ النبي محمّد مَنع أو رفض أن يُترجم القرآن.

يُروى أيضاً أنّ بعض الأئمة الذين كانوا يُعلّمون أهل اللغة الفارسية القرآن، منهم أبو موسى الأشعري، كانوا يشرحون الآية بالعربية لناطق العربية، ثم بالفارسية للفُرس. نعرف جميعاً أنّ النبي كان يرسل الكتب إلى ملوك الدول المجاورة يدعوهم للإسلام، وطبيعيٌّ أن يستشهد ببعض الآيات القرآنية في ذلك، وأغلب الظنّ أن تلك الآيات كانت مترجَمة. في هذا كلّه ما يدعونا إلى التفكير في أنّ الترجمة كانت نشاطاً أساسياً في نقل الدعوة الإسلامية، استناداً إلى ترجمة القرآن. بهذا المعنى لم تُحرَّم ترجمة القرآن في صدر الإسلام.

مع ذلك كلّه، حتى اليوم، لا تزال ترجمةُ القرآنِ موضعَ جدل بين المعنيّين، داخل الإسلام وخارجه. ويُمكن تلخيص هذا الجدل في ثلاث نقاط: إنَّ أيّة ترجمةٍ للقرآن من اللغة العربية إلى لغةٍ أُخرى، تعني بالضرورة تجريدَ النص المقدَّس من ثوبه الحقيقي، أي من العربية التي نزل بها على النبيّ. ولمّا كان القرآن قد نزل بلسانٍ عربي، فإنّ منحه ثوباً آخر يعني، بشكل من الأشكال، تجريده من إحدى صفاته الأساسية، أي عربيته الإعجازية. 

لا توجد ترجمة صحيحة أو خاطئة، بل ظروفٌ لاستقبال النصّ وأنماطٌ لفهمه

أمّا نقطة النقاش الثانية، فتعود إلى طبيعة اللغة العربية نفسها، تماماً كما كان الحال في اللغات السامية الأُخرى، مثل العبرية أو الآرامية. إنّ القيمة الدلاليّة لأيّة كلمة عربية ترتكز، بالدرجة الأولى، على سياقها بين الكلمات الأُخرى، وعلاقاتها بها، لا سيّما في النص القرآني. يحدث العكس في اللغات الأنكلوسكسونية واللاتينية، التي تُعتبر لغاتٍ تحليليّة وسرديّة إلى حدٍّ ما. هاتان الخصوصيّة والفرادة اللتان تتمتّع بهما العربية تجعلان مهمّة ترجمة أي نص ليست بالسهلة. نعرف جميعاً ما قاله الجاحظ عن عدم إمكانية ترجمة الشعر العربي. ما عسانا أن نقول عن إمكانية ترجمة كلام الوحي؟ 

والنقطة الثالثة تقول إنّ النص القرآني عمل ربانيٌّ لا يمكن أن يكون فيه خطأ. والترجمة، في أحسن أحوالها، مهما كانت رفيعة وسامية، فعلٌ إنساني محض. والإنسان، مهما كان عالماً، فهو في نهاية المطاف "ظلومٌ جهول"، وهذا معناه أنّ هامش الخطأ كبير، والخطأ يعني تجريد النص من قدسيته وجعله شبيهاً بأيّ نصّ آخر.

وبعيداً عن جدلية إمكانية ترجمة القرآن من عدمها، فإنّ الترجمةَ، في العمق، قراءةٌ، وكلُّ قراءة فهم. والقراءة- الفهم مرتبطة، كما أراها، باختلاف الأزمنة والأمكنة، إضافةً إلى اختلاف الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ضمن هذا المعنى، لا توجد ترجمة صحيحة أو خاطئة، توجد ظروفٌ لاستقبال النصّ وأنماطٌ لفهمه. يمكن لهذا، برأيي، أن ينطبق على ترجمة النصّ القرآني.

 

المساهمون