اللاجئون واستعارة المياه

02 مايو 2021
ميغيل بارسيلو/ إسبانيا
+ الخط -

ثمّة تقليدٌ راسخ، في اللغة السياسية الراهنة، يتعلّق بوصف ظاهرة الهجرة كحدثٍ مائي خطير. في عام 2015، في عزّ أزمة اللجوء في أوروبا، استخدم رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، المجاز اللغوي بنفَسٍ وحشي لمّا قال: "سأرتاح فقط عند إيقاف هذا الفيضان". عشرات التقارير الإعلامية تصف تحرّكات اللاجئين كتنقّل مستعمرات مائيّة، باستخدام عبارات مثل "موجات اللاجئين" و"تدفق اللاجئين" و"فيضان اللجوء". صورُ الهاربين تقرّب الاستعارة من الواقع: فإمّا سيل بشري مجازي يمشي كخطٍّ سميك مخترقاً الحدود من شرق أوروبا، أو قارب مطّاطي محتشد بالناس يسبح في مياه المتوسّط الحقيقيّة في جنوب أوروبا.

أشار البعض في "جامعة هومبولدت" في برلين إلى خطورة هذه الاستعارة، وتداعياتها في نزع السياسة عن ظاهرة اللجوء، ونزع الهويّة الفردية للاجئين. لا أسباب سياسيّة وراء الكوارث الطبيعيّة، وقطرات الماء متشابهة كلّها لأنّها مجرّد قطرات ماء. حتّى لو كانت النيّات وراء توصيف ظاهرة اللجوء بـ"الكارثة الطبيعية" إنسانية وإيجابيّة، إلّا أنّ التعاطف الناتج من هذه النيّات سيكون مجرّد شحنات عاطفيّة معدومة البصيرة السياسية. لتتبُّع الخيط، يُطرَح السؤال عن تاريخ استعارة المياه في اللغة، وتحديداً استخدام استعارات مثل "المدّ" (المضاد لـ"الجزر") و"موجة" و"تدفق" و"فيضان" لوصف تحرّكات البشر. 

من تداعيات استعارة الموجة نزعُها الهوية الفردية للاجئين

في نصّ "قاموس الخطاب التاريخي حول الهجرة"، يؤرَّخ ظهور الاستعارة في اللغة الألمانيّة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. في بداية السبعينيات، كان يشار إلى أنّ "تدفّق" العمّال الأتراك إلى سوق العمل الألمانيّة المحلية سيؤدّي إلى "فيضان" في سوق العرض والطلب. العمّال من ألمانيا الشرقيّة، ممّن فقدوا وظائفهم بعد سقوط جدار برلين وضمِّ الولايات الخمس، وُصِفُوا أيضاً بأنّهم "فيضان" في سوق عمل ألمانيا الغربيّة. ثمّة حضورٌ غريب لمفردة الموجة في جريدة ألمانية، إذْ يصف الكاتب إنجاب النساء الهنديّات بأنه سيؤدّي إلى "فيضان" في الكوكب.

لا تُستخدَم استعارة المياه في وسائل الإعلام الشعبويّة فقط، بل هي حاضرة بقوّة في الأوساط الأكاديمية. ولعلّ المثال المشهور مقالة "نظرية في الهجرة" لعالم الاجتماعي الأميركي، إيفريت لي، الصادر عام 1966. لي يبالغ في تصديق الاستعارة، إذْ ينقل القوانين الفيزيائيّة التي ُتطبَّق على المياه إلى العلوم الاجتماعيّة. الماء يتأثّر بجاذبية الشمس والقمر، وظاهرة المدّ والجزر على الشواطئ دليلٌ دامغ. يضع لي في هذه الجملة صلبَ نظريّته: اللاجئون كالمياه، ثمّة عوامل "تجذبهم" وأخرى "تدفعهم". حتّى إنّ مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" الأميركيّة نشرت إحصاءات في عام 2019 حول العلاقة بين اللجوء وعوامل محدّدة، مثل دخل المواطنين والناتج الوطني الإجمالي والرفاه الاقتصادي. عرضت المجلّة نتائج الدراسة على شكل منحنيات مُسطّحة، وكان المشهد أمام العين: موجة مياه. المفارقة، أنّ هنالك أدوات بصرية أخرى في علوم الإحصاء يمكن أن تُستخدَم لعرض النتائج، لكنْ يبدو أن ثمّة حاجة لرؤية الموجة تحديداً.

لا تستخدم وسائل الإعلام الاستعارة لإكساب حركة الهجرة طابعاً فيزيائياً، بل لاستحضار مشهد القوّة التدميريّة للسيول في الأذهان. الاستخدام الأكاديمي، كما يقول مدرّس المثالية الألمانية في برلين، توماس ماير (39 عاماً)، نوعٌ آخر، إذْ يحوّل حركة البشر إلى ظاهرة فيزيائيّة (هيدروليكيّة)، إلى قانون طبيعي تقريباً. في الخطاب العلمي، الأمواج والفيضانات لا تعبّر عن كوارث مفاجئة، بل هي قانون من قوانين الطبيعة. تلعبُ المياه هنا وظيفة "الاستعارة العلميّة"، وتصبح ظاهرة اللجوء في النتيجة موضوعاً للعلوم التطبيقيّة يديره "تكنوقراط" المؤسسات الدوليّة، لتُخرَج ظاهرة حركة البشر بشكل كامل من سلطة العلوم الاجتماعية.

تحرير حركة البشر من استعارة المياه لاستعادة كرامة الفرد

برزت الموجة كنقطة تداخل بين العلوم الاجتماعيّة والعلوم التطبيقيّة منذ أواخر القرن التاسع عشر. افتراض حركية الواقع الاجتماعي وفهمه على شكل موجة. في حوالى عام 1900، كانت العديد من التخصّصات العلميّة، ولا سيّما علم الاقتصاد وعلم اللغة وعلم الأوبئة، تستخدم مصطلحات مثل "الميول الصاعدة والهابطة في الجسم الاجتماعي". الموجة هنا أداة تفسير علميّة - اجتماعيّة لها دور مزدوج: الاستعداد لتهديد محتمل، أو التبشير بنبوّة جديدة. ثمّة تشابه، مفاهيمي على الأقلّ، بين عبارتي "موجة اللاجئين" و"موجة كورونا". "الموجتان" توصيفٌ لحدث طبيعي مُنتظَم، يستدعي "إجراءات" فورية، وهو قبل كلّ شيء: حدث غير سياسي.

الفهم "الهيدروليكي" للعمليات الاجتماعيّة تسرّب إلى علم تأريخ الأفكار أيضاً. يُفهَم التاريخ كمخطّط منضبط بانتظام طبيعي، والتقدّم داخل هذا المخطّط يكون على شكل موجات. إمّا "موجات نسوية" أو "موجات إنهاء الاستعمار" أو "موجات التحوُّل الديمقراطي". المشكلة في استعارة المياه ليست، فقط، في خطأ افتراض وجود قوانين طبيعيّة فيزيائية لحركة البشر، بل استبعاد واختصار خبرات وتجارب البشر والدوافع المركّبة لتحرّكاتهم. حركة البشر وفق استعارة المياه محصورة كـ"نتيجة طبيعية" في خيارين لا ثالث لهما. هي نتيجة طبيعية للحرب (لاجئ) مرّةً، ومرّة نتيجة طبيعية لجاذبية مفترضة لسوق العمل في البلد المضيف (مهاجر).

لا تلعب استعارة المياه دوماً هذا الدور الوظيفي الفيزيائي في العلوم الاجتماعيّة، بل يمكن أن تُشْحَن بسرعة كبيرة بمواقف ومعانٍ سياسية بحتة. استعارة المياه كـ"استعارة سياسيّة" ظهرت في عشرينيات القرن الماضي، إذ استخدم الكثير من علماء الاجتماع في أميركا عبارة "موجات الهجرة" في الإشارة إلى تحرّكات البشر باتجاه الولايات المتحدة الأميركية. حملت صور الموجات بيانات وأرقاماً تزعم حياداً سياسياً، لكنّها في الوقت نفسه تشير إلى تهديد قادم. المؤرّخ الأميركي سيّئ الصيت، لوثروب ستودارد (Lothrop Stoddard)، الذي استخدم الموجة للتذكير بـ"فقدان أميركا لونها الأبيض"، مثال رئيسي على خدمة مفهوم الموجة للأفكار العنصريّة ببساطة.

مشكلة الموجة تظهر بشكل أوضح عند وضع البيانات والأرقام بشكل مباشر ومجرّد في جدول بسيط، وفي المقابل تمثيلها بصرياً في شكل موجة. الموجة إشارة إلى القيامة، وإنذارٌ بما هو قادم، ودعوة ملحّة إلى التدخّل السريع. ألا تقترح الموجة الصاعدة، التي تنقلُ نسبة الجريمة في أوساط السود بأحياء نيويورك، فكرة بناء رابطٍ جوهري بين السواد والإجرام؟ هنالك الكثير من الطرائق لعرض البيانات الرقميّة بصريّاً، بحث تترك أثراً درامياً في النفس، وأكثر قسوة من الموجة نفسها. وليس من قبيل المصادفة أنّ النظريات المعادية للهجرة التي ظهرت في أوائل القرن العشرين، ظهرت بالتزامن مع صعود الديموغرافيا (علم السكّان) في الأنظمة الأكاديمية. الديموغرافيا لا تنظر إلى المهاجرين الأفراد، بل إلى تأثير الهجرة في "البُنية العامّة للسكّان الأصليين" مع إمكانية التنبؤ بـ"آثارها" ودراسة "الرواسب" التي تتركها وراءها.

هذه ليست محاولة لإرجاع كلّ مأساة الهجرة إلى استعارة المياه، لكنّ تحرير حركة البشر من استعارة المياه خطوةٌ من خطوات استعادة كرامة كلّ فرد منهم.


* كاتب من سورية

المساهمون