من المعروف أنّ الكُوفيّة، أو ما يُسمَّى بـ"الشماغ" وغيره، هي غطاء للرأس مُنتشرٌ في بلاد الجزيرة العربية، ويمتدُّ باتجاه الأردن وفلسطين والعراق ومناطق أُخرى. وإن كُنّا لا نريد البحث، هُنا، في أساس ظهور الكُوفيّة، وتطوُّرها، واتّخاذها الشكل الذي نراه، بل سنسلّط الضوء، وبأسلوب لمَّاح، على دلالاتها السيميائية، في عصر المقاومة على اختلاف مشاربها ومنطلقاتها وأيديولوجيّاتها في منطقتنا العربية، بعد أن زُرع فيها الكيان الاستيطاني المُسمَّى "إسرائيل".
لا يُمكن لأحد أن ينسى كُوفيّة ياسر عرفات، بترتيبها الهندسي الذي بات علامة فارقة مرتبطة به وبـ القضية الفلسطينية.
ربّما من المناسب الإشارة إلى أنّ مفهوم الهُويّة بأحد تجلّياته يرتبط بعادات وتقاليد ومُثُل وعاداتٍ اجتماعية، لها امتدادٌ تاريخي مرتبط بالمجتمع الذي يُعبّر عن مفهوم الهويّة هذه. فالكُوفيّة كعنوان لهذه المقاربة، امتدَّ تاريخيّاً في المنطقة العربية، على اختلاف ألوانها، وباتت لها دلالة "التزاميّة" واضحة، تدلُّ على العرب، وهُويّة العربي. فلو كان العربي في أي منطقة من العالَم يرتدي الكُوفيّة أو "الشماغ"، فليس هناك من أيّ حاجة للتساؤل حول هُويّته، إذ إنّها تعكس هذه الهوية وتدلِّل عليها.
نعود لكُوفيّة ياسر عرفات، التي كان لها تعبير يستنطق المفهوم الأوّل لدلالة الكُوفيّة عن الهُويّة، ويثوّرها ويطوّرها وينقلها للدلالة على المقاومة، كامتداد يحمل في طيّاته بعد الدّفاع عن الهُويّة ومقوّماتها واستمراريتها. ومن الملاحَظ بقوّة في محيط بلاد المواجهة مع كيان الاحتلال، لا سيّما في ما يعني المقاومة الفلسطينية، أنّ الكُوفيّة كانت منتشرة بين المقاومين.
استحضر ناجي العلي رمزيّتها بقوّة في أعماله الكاريكاتيرية
من ثمّ، فإنّ الكُوفيّة المقاومة فضلاً عن كونها تُدلِّل على الهُويّة أولاً، وتُدلِّل وتُشير إلى مفهوم المقاومة ثانياً، كان لها دورٌ في التخفّي والاستتار الذي عمد من خلاله المقاومون إلى إخفاء معالم وجوههم، وشخصيّاتهم، عن محيطهم، لأسباب تصبُّ في إطار حمايتهم الشخصية، خلال عملهم المُقاوم.
ننتهي من هذا التقديم للإشارة إلى أنّ الكُوفيّة برزت لدى الناطق باسم "كتائب عز الدين القسّام" أبي عبيدة. وهي إذ تختلف عن كُوفيّة أبي عمّار، من حيثيّة تغطيتها لكامل الوجه إلّا العينين، وطريقة اعتمارها. وذلك لأسباب تتعلّق بضرورة إخفاء معالم وجه أبي عبيدة، فهي قد اكتسبت بُعداً دلاليّاً مُمتدّاً أولاً من اعتماده اسماً حركياً، ومن بعده أسلوب إلقاء البيانات، وحركة الإصبع، والنّبرة، فضلاً عن إخفاء كامل الوجه على ما هو معروف، ما أكسبه بُعداً أسطوريّاً، قائماً على كونه يُعبّر عمَّا تمثّله المقاومة من قِيم واعتبارات، خصوصاً في الأشهُر القليلة الماضية من العُدوان الإسرائيلي على غزّة.
نُشير في هذا الإطار إلى نقطتين، الأُولى تتمثّل في أنّه مع الثورة التكنولوجية، ووسائل التواصل، والذّكاء الاصطناعي، وغيرها من عناوين صاحبت عصرنا، وحكمت العالَم، أضحت هناك ضرورة أولاً للاستتار، خصوصاً بالنسبة للمقاومين، على اعتبار أنّ الوصول إلى الرموز المقاومة قد يشكّل "مكسباً" معنوياً واستراتيجيّاً بالنسبة للعدوّ، ويتم توظيفه إعلاميّاً ليبرّر مجرمو الاحتلال وحشيّتهم أمام المستوطنين ودوائر القرار الدولية. كان للكوفية، وهذا ثانياً، ولاستتار المقاومين فيها، بُعدٌ يُخاطب الرأي العامّ العربي والإسلامي بل والدّولي أيضاً، ويحيطهم بهالة من القداسة، والجماهيرية، ويعبّر عن روح ثوريّة، يكون لها تأثيرٌ بالغ في عصر الصّورة.
بهذا الإطار، ومع ما يذهب إليه سلافوي جيجك بالقول إنه "لم تعُد حرب مَن تفوز بل حُجَّة مَن تفوز"، بات للإعلام دورٌ أساسيٌّ ليس فقط بالتعبير عن نبض الشارع، بل وتوجيهه. ومع ما اكتسبه اللّاوعي البشري من مَيلٍ باتّجاه المحبّة والشغف والتأثُّر بالأبطال الخارقين الأسطوريّين، فإنّ المقاومين المتخفّين يَبرُزون اليوم في الوعي العربي والإسلامي، وحتى العالمي، كأبطال خارقين، يخاطبون الوعي لدى الجماهير المتلقّية، فتكون لهم وظيفة غير مباشرة بالتأثير والتثوير والتعبئة باتّجاه القضيّة التي يمثّلون، في زمن باتت فيه القضيّة مُهدَّدة بالمُعادلات والمصالح الدُّولية.
أختم هذه المقاربة بالإشارة إلى أنّ الفنّان ناجي العلي قد وعى بطريقة استشرافية هذه النقاط، فلم يكُن لـ"حنظلة" إلّا أن يُدير وجهه، ومع ما في هذه الحركة من إشارات ضمنيّة، إلّا أنها قد تحمل بشكل أو بآخر بُعداً قد يُكسب ما قدّمته نوعاً من المشروعيّة. وفضلاً عن ناجي العلي، كان للكُوفيّة ظهورٌ بارزٌ في دوائر الفنّ التشكيلي العربي، والكاريكاتير وغيره، لما اكتسبته من بُعدٍ دلالي مُعبّر عن الهُويّة والمقاومة.
* كاتب وتشكيلي من سورية