الكتاب الجزائري في دوائر مغلقة

03 مارس 2023
من "معرض الجزائر الدولي للكتاب"، تشرين الأوّل/ أكتوبر 2014
+ الخط -

لكُلّ وزير ثقافة في الجزائر جلساتُه. بدأ ذلك منذ عشر سنوات تقريباً، ثمّ تحوّل الأمرُ إلى ما يُشبه تقليداً يُحاوِل كلُّ وزير أن يُثبت، مِن خلاله، ربّما، أنّه منفتحٌ على جميع الأفكار، ويوهِم بأنّه مُستعدّ لإحداث "ثورة" مِن الإصلاحات العميقة قي القطاع. في كلّ مرّة، يجتمع فاعلون في المسرح، والسينما، والكتاب، وفي غيرها من قطاعات الثقافة، لأيّام يتحدّثون فيها عن المشاكل التي تعيشُها قطاعاتهم، ويقترحون حلولاً لها. ماذا بعد ذلك؟ يُقال الوزيرُ (غالباً بعد سنة واحدة) ويوضَع كلُّ شيء في الأدراج، ليُعيد الذي يأتي بعدَه المشهدَ بحذافيره... وهكذا دواليك.

باتت اللعبة طويلة ومملّة. لا يختلف الأمرُ بالنسبة إلى وزيرة الثقافة الحالية، صورية مُولوجي؛ ثالثِ وزراء الثقافة في فترة الرئيس عبد المجيد تبّون، بعد وفاء شعلال (2021 - 2022)، ومليكة بن دودة (2020 - 2021). كانت الأخيرةُ قد فتحت مجموعة من ورشات التفكير في قطاعات الثقافة المختلفة، سُمّيت بـ"لجان الإصلاحات"، وخرج المشاركون فيها باقتراحات كثيرة لإحداث تغييرات وتطويرات وإصلاحات في كلّ قطاع. وكما هي العادة، ذهبت الوزيرةُ وظلّ الأمرُ مجرَّد اقتراحات.

لا بأس من إعادة الكرّة؛ فالوقتُ متوفّرٌ وليس ثمّة ما يدعو إلى العجلة. قبل أيام، عقدَت الوزارةُ اجتماعاً لما سمّته "لجنة تنظيم الجلسات الوطنية للصناعة السينماتوغرافية" التي يُنتظَر أن تُقام يومَي 29 و30 نيسان/ إبريل المقبل، بناءً على دعوة الرئيس تبّون إلى "إشراك الفاعلِين الجزائريّين في قطاع السينما داخل الوطن وخارجه في إثراء مشروع القانون"، وستُسبَق الجلساتُ بـ"ورشات جهوية" في مدن قسنطينة ووهران وبسكرة وتيبازة. غير أنّ كلّ هذا سيكون مجرَّد تكرار لجلساتٍ سابقة للاستماع إلى انشغالات واقتراحات الفاعلِين والمهتمّين بالسينما؛ آخرها في 2020، خلال فترة كاتب الدولة السابق لدى وزيرة الثقافة المكلّف بالصناعة السينماتوغرافية والإنتاج الثقافي، بشير يوسف سحيري (ألغي منصب كاتب الدولة في عام 2021).

لجانٌ جديدة ستعمل على "دراسة" قضايا صناعة الكتاب

وفي 28 و29 كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي، نظّمت الوزارةُ في "المكتبة الوطنية الجزائرية" ما سمّته "الجلسات الوطنية للنشر والكتاب والمطالعة"، بحضور من قالت إنّهم "فاعلون في صناعة الكتاب"، من مُؤلّفين وناشرين ومطبعيّين ومستوردين ومصدّرين (هل يُستورَد الكتاب إلى الجزائر وهل يُصدَّر الكتاب الجزائري أساساً؟) وموزّعين ومكتبيّين.

تَمثَّل هدف الجلسات، بحسب الوزارة، في "رسم استراتيجية وطنية للكتاب والمطالعة"، و"تهيئة الظروف لكلّ محترفي الكتاب لحلّ مشكلات مجالهم، والإسهام في اقتراح حلول عاجلة وقابلة للتنفيذ". وخلال الافتتاح، اعترفت الوزيرة مُولجي بأنّ "صناعة الكتاب في الجزائر تحتاج إلى إصلاحات شاملة"، وتحدّثت عن ضرورة "تحقيق سبل توزيعٍ تتماهى مع الجغرافية الجزائرية، وتأسيس معارض قارّة، وتحفيز فتح مكتبات بيع الكتب، والاستفادة من فنّيات الطباعة، والتفكير في الوصول إلى أسواق إقليمية ودولية بتصدير الكتاب وخدماته".

ثمّةَ اتّفاقٌ على ضرورة تحقيق كلّ ذلك. لكنّ المشكلة أنّ الوزارةَ، والدولة بشكل عام، لا تفعل شيئاً في سبيل تحقيق ما تتحدّث عن ضرورة تحقيقه. إنْ عُدنا إلى الوراء قليلاً، فسنستمع، مثلاً، إلى الوزير الأوّل السابق، عبد المالك سلّال، وهو "يُشدّد"، خلال افتتاح "معرض الجزائر الدولي للكتاب" في 2016، على "ضرورة تصدير الكتاب إلى الخارج للتعريف بالثقافة الجزائرية"، قبل أن يُضيف بأنّ "الجزائر لا تزال بعيدةً في هذا الجانب". نحن اليوم في 2023، ولا تزال الجزائر جزيرةً معزولة في عالَم الكتاب؛ فما يُنشر في الخارج لا يصل إليها، وما يُنشَر في الداخل لا يخرج منها. لم يُخبرنا سلّال كم نحن بعيدون تحديداً.

بحثٌ عن حلول موجودة في قانون الكتاب الذي لم يُعمَل به

تمحوَرت الجلسات حول التأليف وحماية الملكية الفكرية، وصناعة الكتب وترقية النشر والمكتبات والمطالعة، وضمّت ورشات تناولت مواضيع مثل: "صناعة الكتاب وترقية النشر، ومجال التوزيع، والملكية الفكرية، ومكتبات المطالعة. وبعد شهريَن من انعقادها، أعلنت وزارة الثقافة، الاثنين الماضي، عن تنصيب مجموعة من اللجان التي قالت إنّها ستعمل على "التجسيد الميداني لهذه التوصيات، واقتراح حلول للانشغالات التي طُرحت في الجلسات الوطنية للنشر والكتاب والمطالعة".

يتعلّق الأمر بثلاث لجان؛ الأُولى هي لجنة إنشاء "المركز الوطني للترجمة"، وتتمثّل مهمّتها في إعداد مقترح ملفّ تقني وقانوني لإنشاء المركز الذي يهدف إلى "معالجة النقص المسجَّل في ميدان ترجمة العلوم والمعارف من وإلى اللغات الوطنية". أمّا الثانية، فهي "لجنة ميثاق أخلاقيات النشر"، وتهدف إلى "الأخذ بعين الاعتبار كلّ الانشغالات التي طُرحت خلال 'الجلسات الوطنية للنشر والكتاب والمطالعة' بخصوص التجاوزات الحاصلة في مجال النشر، والمشاكل التي يعاني منها الناشرون". وأمّا اللجنة الثالثة فتتكوّن من ممثّلين من وزارة الثقافة ووزارات أُخرى، وتهدف إلى "دراسة مختلف القضايا المرتبطة بالكتاب، خصوصاً ما تعلّق بصناعته ونشره وتوزيعه".

وقالت الوزارة في بيان إنّ اللجان ستعمل من أجل "الخروج باستراتيجية شاملة في ما يخصّ مستقبل الكتاب في الجزائر، مع الأخذ بعين الاعتبار كلّ مخرجات ورشات الجلسات من أجل تحقيقها، والتركيز على الأولويات في ما يتعلّق بالمشاكل والانشغالات المطروحة، والحرص على إشراك المختصّين والمهنيّين في تصوُّر وإعداد الحلول لها".

قد يبدو كلُّ هذا بمثابة خطوة إلى الأمام. لكنّه، في حقيقة الأمر، ليس سوى خطوةٍ أُخرى إلى الوراء، من شأنها تضييع مزيدٍ من الوقت والمال (يعمل أعضاء اللجان المنصَّبة نظير مخصّصات مالية). لنتذكَّر هنا أنّ البرلمان الجزائري صادق في 2015 على "قانون الكتاب"، الذي أُعدّ بمشاركة فاعلين في القطاع خلال فترة وزير الثقافة السابق عز الدين ميهوبي، الذي وعد بأنّ القانون سيدخل حيّز التنفيذ ابتداءً من 2016، لكنّ القانون لم يُعمَل به إطلاقاً، رغم أنّه يتضمّن كثيراً من الحلول التي تبحث عنها الوزارة في مكان آخر.

يُذكّرنا ذلك بما يُسمّى "المركز الوطني للكتاب"، الذي أُنشئ عام 2009 بهدف "دعم وتشجيع صناعة الكتاب، والإسهام في تطوير صناعة الكتاب، لا سيما في مجال توزيعه وإيصاله إلى القارئ"، كما نقرأ في موقع وزارة الثقافة، لكنّه لا يزال، إلى اليوم، هيكلاً من دون روح، من دون أهداف، ومن دون دَور يُذكَر. ألا يُفترَض أن تتولّى هذه الهيئة مهمّة البحث عن حلول لمشكلات صناعة الكتاب بدل تنصيب مزيد من اللجان؟

في المحصّلة، فإنّ كلّ مشاكل قطاع الكتاب معروفةٌ للجميع، للناشر والموزّع والمطبعي والمكتبي والكاتب والقارئ، بل إنّ حلولَها معروفةٌ أيضاً... لكنّ وزارة الثقافة، والدولة، تُفضّل أن تسلك أطول السُّبُل إلى تلك الحلول، كأنّها لا ترغب البتّة في الوصول إليها: لجانٌ تتفّرع عنها لجانٌ أُخرى، وورشات وجلساتٌ تقود إلى جلسات وورشات أُخرى... ثمّ ماذا بعد؟ على الأرجح، سنقرأ قريباً خبر إقالة وزيرة الثقافة، وسنقرأ بعدها أخباراً عن تنصيب لجان وعقد ورشات وجلسات ووعود جديدة ممّن سيأتي بعدها. لكن إلى متى نبقى عالقين في هذه الدائرة المغلقة؟

المساهمون