تماماً كما أنها تخطّ صفحة جديدة ومختلفة جذرياً من صفحات الصراع العربي الإسرائيلي، يبدو أن الانتفاضة التي تشهدها فلسطين حالياً قد بدأت بتغيير رياح التفكير بشأن القضية الفلسطينية داخل الساحة الإيطالية على نحو غير مسبوق، بعد عقود من التخندقات الأيديولوجية التي قذفت بالقضية خارج اهتمامات الرأي العام.
عن المنطق الجديد الذي فرضته الهبّة الفلسطينية مقابل المعسكر الأيديولوجي التقليدي علّق رئيس تحرير "مرصد المشرق" نينو أورتو: "يبدو أن الرسالة الأخيرة للهبّة الفلسطينية مرّت دون أن يلاحظها أحد بسبب ضجيج الثرثرات المعتادة لخبراء القضية الذين غدت تعليقاتهم أشبه بأحاديث الحانات ومنطق مشجعي الملاعب (...) النقطة المركزية هنا هي أن المواجهة قد تغيّرت وتغيّر شكلها: فمِن "نحن" الإسرائيليون و "أنتم" الفلسطينيون، نمرّ إلى "نحن" اليهود و"أنتم" العرب. لا بد من التفكير في إطار سياسي وأيديولوجي جديد نقرأ من خلاله التطورات الحاصلة". "على هذا الصعيد من الواضح تماماً أن الإسرائيليين هم من يخسر هذه الحرب". هكذا علق أحد الناشطين على تدوينة أورتو الذي أيّد تماماً الفكرة.
في المقابل، بقي الداعمون المؤدلجون للقضية الفلسطينية في إيطاليا، مصرّين على ضرورة العودة إلى الوضع السابق، مع محاولة إرجاع الجدل السياسي في الصراع إلى المربّع صفر، وهو الذي نجحت الهبّة الأخيرة في تجاوزه كليّاً. مربّع التذكير بالخلافات الداخلية الفلسطينية والعربية، وكليشيه "حماس تُحرج النضال السلمي الفلسطيني"، وما يرافق ذلك عادة من بكائيات "الأنجي أوز" (المنظمات غير الحكومية) وشعاراتها المنكوبة. فما سبب إصرار أنصار فلسطين الأيديولوجيين على عزل القضية عن محيطها العربي وتحييد أي قراءة حولها تضعها في سياقها الحضاري الطبيعي؟
لفهم هذا التوجه لا بدّ من أن ندرك أن أنصار القضية الفلسطينية في إيطاليا طالما انتهجوا أسلوب "الانتحاب" لكسب تضامن الرأي العام، وذلك من خلال خيارات بحث وترجمة يمكن تصنيفها في خانة البكائيات الأوشفيتزية التي يعرفها الغربي جيداً، في محاولة لخلق طباق بين محرقة اليهود والنكبة؟ وهو مسعى "طيّب" لكنه معاق فكرياً وغير قابل للتنفيذ من حيث إنّ عقدة أوشفيتز نجحت في التغلغل في المخيال الغربي والرسوخ فيه، لأنها قائمة على سردية تستوفي بالكامل شروط الدراما الكلاسيكية التي تحترم الذكاء الفني للمتلقّي الأوروبي، وهو مَن نشأ على حبكات التراجيديا الإغريقية المتقنة. فالبطل الطيّب في كلّ قصة، ولأجل أن يكسب التعاطف المطلق من المتلقّي، لا بد أن يقف في وجهه بطل شرير مرسوم الملامح بعناية فائقة: هتلر الدموي.
أظهرت فلسطين بهذه الانتفاضة أن لديها فائضاً من العزيمة
أمّا في قصّة النكبة فهو "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" التي يروّج أنصار فلسطين في إيطاليا أنفسهم لأطروحات يسارها. الأمر الذي حال دون اقتناع الأوروبي بقصّة النكبة بسبب ما تعانيه من ثغرات تقنية وخلل في رسم الشخصيات، وهي هنات تسبّبت بها الرقابة من جهة، واصطفافات يسارية عولميّة من جهة ثانية، لا ثغرات في السردية الأصلية.
هذا عدا عن معطيات أخرى لا مجال للتفصيل فيها هنا، دفعت بالمستشرقين الجدد للإصرار على تحييد الفلسطيني عن بيئته العربية الطبيعية وتقديمه كجنوب إفريقي مسلوب الحقوق، أو زنجي مضطهد، أو كوريّة مغتصبة أو أي شيء آخر إلّا كونه عربياً، مع كل ما يستدعي ذلك من استدعاء لأمجاد حضارية لا تتناسب مع دور الضحية.
هذه المحاولات "الطيّبة"، القاصرة فكرياً وغير المتماسكة درامياً، لإظهار الفلسطيني كضحية أبدية في سبيل نصرة قضيته، انحرفت بشكل تام عندما بدأ التركيز في السنوات الأخيرة يتّجه نحو إظهار المحيط العربي كمحيط خرِب مضطهَد من قِبل الدكتاتوريات العربية، بينما يقدِّم الفلسطيني الاستثناء الثقافي في المنطقة وهو من يعيش في كنف "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، مع حرص المستشرقين الجدد (من مناصري القضية) على دعم الفلسطينيين من أجل الحصول على حقوقهم المدنية من النظام اليميني الإسرائيلي.
وإن كان الفلسطيني قد قبل بتحجيم نضاله حالياً، ضمن مفردات حقوقية كمفردات الفصل العرقي، والتمييز العنصري وما إلى ذلك من منطق "خذ وطالب"، مع عدم نسيان حقّه في تصفية الاستعمار، إلّا أن أشدّ المتعاطفين مع القضية الفلسطينية راديكاليةً في إيطاليا لا يرى للفلسطيني حقوقاً أخرى غير تلك الحقوق المدنية التي يعترف بها بشكل مخاتل اليسار الإسرائيلي، على تنويعاتها. لتأتي هبّة فلسطين الأخيرة، والمستمرّة، وتصحّح كلّ التصورات العرجاء عن مطالب الشعب الفلسطيني أمام الرأي العام الإيطالي، وتعيدها إلى إطارها الحقيقي، جارفةً معها أيضاً، وعلى نحو غير متوقَّع، صورة العربي الإرهابي التي جرى تكريسها طيلة سنوات عديدة من طرف ماكينة إعلامية وثقافيّة متجذّرة. فكيف حدث ذلك؟
في عام 2020 وخلال أهم مهرجانات إيطاليا الموسيقية، "سان ريمو"، تمّت دعوة الصحافية ذات الأصول الفلسطينية رولا جبريل ضيفة على المهرجان الذي يحوز أعلى نسب مشاهدة تلفزية طيلة أيام السنة. في هذه المناسبة اختارت الضيفة (التي حرص السيناتور الإيطالي لوتشيو مالان على تذكير الإيطاليين أنها صديقة هارفي واينستن) إلقاء خطاب عن العنف ضد المرأة في العالم وضمن البيئة العربية التي نشأت فيها، مع التأكيد مسبقاً على أنها لم تتعرض لأي رقابة من المحطّة الحكومية التي تنقل المهرجان الفني الأبرز على الإطلاق.
هذا الخيار الذي أظهر لإيطاليا بأسرها أن قضية المرأة الفلسطينية هي الحصول على حقوقها من الرجل العربي المتوحّش وليس تصفية الاستعمار، سجّل في مرمى القضية الفلسطينية هدفاً قاتلاً من بوّابة الحقوق المدنية، وهو ما لم ينتبه له محبّو فلسطين حينها، في ظل هيمنة خطابات نسوية الماينستريم التي تحوّلت إلى أسرع وصفة ماركتينغ تخديرية للترويج لأي حدث فني أو سياسي. ومرّ تحت تصفيق داعمي القضية الذين فرحوا كالأطفال برؤية امرأة من أصول فلسطينية ترتدي فستان دولتشي غابانا وتقف جنباً إلى جنب مع عقيلة كريستيانو رونالدو.
المفارقة أن منطق النضال النسوي هو نفسه ما قلب الطاولة على الصحافية ذاتها بعد الهبّة الفلسطينية الأخيرة، حين رفضت المشاركة في أحد أشهر البرامج الحوارية الإيطالية للحديث عما يدور حاليا في فلسطين، وكانت حجتها أنها المرأة الوحيدة بين سبعة ضيوف رجال. الخبر الذي نقلته جريدة "لا ريبوبليكا"، الأوسع انتشاراً في إيطاليا، تراوحت ردود الأفعال حياله على منصّات التواصل الاجتماعي بين الصدمة العميقة والتهكّم والسخرية من سلّم الأولويات النضالية للصحافية ذات الأصول الفلسطينية، وهو ما أسقط ورقة التوت عن عورة النضال التقدّمي الذي انحرفت بوصلته في إيطاليا عن تحقيق أي أهداف عملية سوى البحث عن التموقع في أفضل مكان يضمن لصاحبه أكبر مساحة للعب دور الضحية والتكسّب من ورائه. فهل دور الضحية الذي أُريدَ للفلسطينيين في إيطاليا أن يلعبوه طيلة سنوات، لم يعد الأنسب لهم بعد الانتفاضة الأخيرة بسبب خيار المقاومة المسلحة؟ وهل أثر ذلك على درجة التعاطف الغربي مع قضيّتهم؟
الجواب السريع والمختصر هو العكس تماماً. فبالرغم من أن سلاح غزة طالما أثار حرَج داعمي القضية الفلسطينية واليسار الإيطالي، الذي وجد له مؤخراً في مسائل النسوية والجندرية محاور مظلومية مريحة يهتف لها بعيداً عن وجع رأس ضرورة دعم أي مقاومة مسلحة ــ وهي طريق النضال الذي مرّت عليه كل حركات تصفية الاستعمار في العالم ــ إلا أن هذا الحرج تبين مؤخراً أنه لا يُلزم سواهم في إيطاليا.
الحرج الذي كان واضحاً مثلاً في "مهرجان الفيلم المتوسطي"، المنعقد في خريف العام الماضي، من خلال فيلم "غزة مونامور"، الذي يُظهر في أحد مشاهده شاباً غزيا منتشياً بمشاهدة صواريخ حماس في المدينة. وبالرغم من أن الشاب في الفيلم برّر سعادته بكون الفلسطينيين يملكون حق الدفاع عن أنفسهم تماماً كما يفعل الإسرائيليون، إلا أن منظمي المهرجان اختاروا عدم ترجمة كلمات أغنية شهيرة للمقاومة الفلسطينية شكّلت خلفيةً للمشهد، عكس كل أغاني عبد الحليم في الفيلم، التي تمّت ترجمتها بأمانة شديدة. هذا عدا عن المقالات التي أعقبت عرض الفيلم والتي ركّزت كلها ــ على نحو شبه تزييفي ــ على الحديث عن معاناة الشعب الفلسطيني في القطاع في ظل حُكم "حماس" القمعي والحصار الإسرائيلي سواء بسواء.
الرأي العام الغربي لا يحترم سوى من ينتفض للدفاع عن نفسه
المساواة بين مظالم إسرائيل وحماس عند أنصار القضية الفلسطينية في إيطاليا كان هو نفسه موقف زعيمة اليسار الراديكالي لاورا بولدريني، تعقيباً على الحرب الأخيرة على غزة. حيث دعت بولدريني على حسابها في "فيسبوك" نتنياهو اليميني لعدم توظيف هذه الحرب لتحقيق مكاسب سياسية، كما دعت "حماس" إلى الكف عن محاولة فرض "هيمنتها". بولدريني التي تعتبر من طرف أنصارها من "أهمّ داعمي القضايا العادلة في العالم"، كانت قد تورطت مؤخراً في أكثر فضائح سياسيّي إيطاليا إثارة للسخرية، حيث كشفت الصحافة أنها امتنعت عن تسديد رواتب خادمتها الأجنبية لأشهر طويلة، بالإضافة إلى استغلال وإساءة معاملة مساعدتين لها بالرغم من أنها زعيمة الحزب الأول "المناصر للعمّال والمهاجرين والنساء" في إيطاليا. هذه الحادثة لم تمرّ دون تسجيل اليمين هدفاً آخر في مرمى اليسار الإيطالي، الذي تصاعدت حالة التململ من نفاقه المتفاقم، وتفجّرت في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة على مقال مدوٍّ للمدوّنة الأدبية روبرتا ريفولتا التي كتبت:
"مَن هم أكثر إثارة للإزعاج من وسائل الإعلام التي نعرف على نحو متوقّع أن أصحابها مجرد خدم للسلطة، هم أولئك المدعوون 'محبي فلسطين'، الذين يشجبون بشكل منتظم – تلميحاً تارة وصراحةً تارةً أخرى ــ استخدام المقاومة الفلسطينية للأسلحة. أولئك الذين يريدون من الفلسطينيين أن يكون ضحايا أبديّين لا حول لهم ولا قوة، يريدون الفلسطينيين خاضعين على نحوٍ ما؛ أولئك الذين لا يستطيعون أن يجدوا في رؤوسهم حلّاً للتناقض الأخلاقي القائم بين حقّ المقاومة الفلسطينية في استخدام السلاح وهالة القدّيسين العلمانيين التي يحيطون أنفسهم بها بوصفهم حرّاس العدالة الكونية. ذلك أن المقاومة الفلسطينية لا تقوّض أخلاقياً المجرمين الصهاينة وأنصارهم الذين لا يخجلون من الإعلان عن أملهم في القضاء على فلسطين فحسب، بل تقوّض بالدرجة الأولى معاتيه الغرب الذين يرغبون في خوض معارك التحرير من خلال المهرجانات السينمائية وحفلات الاستقبال بين المشروبات والأطعمة".
تضيف: "لهؤلاء المقاومة الفلسطينية تقول: أنتم مجرّد أوراق متطايرة على الطريق، تنحّوا جانباً لأن الأمر هنا يتعلّق بحياتنا وليس بسهراتكم التضامنية تحت ضوء القمر. تناقضاتكم هذه هي ما تبرزها المقاومة الفلسطينية المسلّحة. أنتم الذين فشلتم في احتضان القضية الفلسطينية على إطلاقها كما تعتقدون، وتجدون صعوبة في دعمها لأنها تتمرّد على إملاءاتكم الأخلاقية (...) أنتم مَن يحبّ الاعتقاد بأن إسرائيل قادرة على كلّ شيء لأنها الطريقة الوحيدة لضمان بقاء الفلسطينيين ضحايا عاجزين للأبد. ذلك أن الوقوف إلى جانب الضعفاء أمرٌ سهل، ويجعلكم دوماً على حق حتى دون الحاجة إلى أن تجهدوا نفسكم في التفكير. أيها الغربيون المعاتيه، يا من تعشقون الانتحاب على الضحايا فقط لأن ذلك يكسبكم شعوراً ما باحترام الذات. يا من تعشقون الانتحاب على النساء والأطفال، لكنكم لا تبكون المقاتلين. لأن المقاتلين يتمرّدون على الأخلاق الجمالية للغربي المعتوه، ويفلتون من سلطته. إنّ هذا القمع الذي تمارسه أيها الغربي المعتوه على الفلسطينيين ليس أكثر إحساناً ولا أكثر احتراماً ولا أكثر نزاهة من الناحية السياسية والأخلاقية من القصف الإسرائيلي لقطاع غزة".
تدوينة ريفولتا هذه اختصرت السخط على المواقف الرخوية لأنصار القضية الفلسطينية التقليديين في إيطاليا التي تتماهى في الكثير من الأحيان وللمفارقة مع المواقف الإسرائيلية نفسها. إذ يكفي أن نعرف أن كل المهرجانات السينمائية التي أشارت إليها ريفولتا لا تخجل من وضع اسم إسرائيل كجهات منتجة لأفلام فلسطينيي الداخل، مع أن المنظمين يملكون حق الاحتفاظ بمصطلح فلسطين التاريخية أو أراضي 48. فالأمر لا يتعلّق في أغلب الأحيان بتظاهرات مدعومة مؤسساتياً من الحكومة، ما يجعل القائمين عليها مضطرين للالتزام بمصطلحات بروتوكول وزارة الخارجية! والواقع أن اسم "إسرائيل" الذي يطغى على الأفلام الفلسطينية في مثل هذه المهرجانات لا يساهم بالتوعية بالقضية الفلسطينية بقدر ما يُظهر "إسرائيل" كدولة ديمقراطية تسمح بإنتاج أفلام معادية لها على أراضيها.
هذا الموقف يتطابق تماماً مع الاستراتيجية التي اعتمدتها "إسرائيل" عام 2015 عندما حلّت ضيفة على الصالون الدولي للكتاب بتورينو وحملت معها إلى أهم تظاهرة أدبية في إيطاليا كلّ دواوين شعر محمود درويش مترجمةً إلى الإيطالية، على اعتبار أنها دولة ديمقراطية تروّج لكلّ "كتّابها" وآرائهم على اختلاف توجّهاتهم السياسية. وهكذا قُدم درويش ببساطة كشاعر من "عرب إسرائيل" معارض للسياسيات اليمينية الإسرائيلية. فأين هو البطل الشرّير من كلّ هذه القصة؟ وأين هو هتلر "النكبة"؟
الشي المؤكّد هو أن نضال "محبّي فلسطين" الإيطاليين الذي يخوضونه بجسارة ضد "إسرائيل" الديمقراطية خلال سهرات السمر تحت ضوء القمر بين النبيذ والمقلوبة على حد تعبير ريفولتا، لم يقتصر على تقديم سردية مشوّشة، غير متماسكة ومليئة بالثغرات عن ماهية الصراع العربي ـ الإسرائيلي للمتلقّي الإيطالي، بل جرّد الفلسطينيّ من حقّه في دعم خيار مقاومة شعبه المسلّحة بدعوى مسايرة المزاج العام في الغرب الميّال للمواقف المسالمة وتذوق الأطعمة الإيكزوتيكية في الحفلات العامة.
هذا كان قبل أن تثبت صواريخ المقاومة الفلسطينية الأخيرة أن الرأي العام الغربي لا يحترم سوى مَن ينتفض للدفاع عن نفسه. لتشهد مواقع التواصل الاجتماعي تدوينات جريئة خرجت عن المنطق الدبلوماسي لخبراء القضية، استوحت من هتافات المقاومة: "يا قسّام يا حبيب، اضرب اضرب..."، مع مراعاة خوارزميات الرقابة الفيسبوكية. عناوين غير مألوفة على صحف واسعة الانتشار على غرار Fanpage، مثل: "قنابل على غزّة، وغارات على تل أبيب: الذنب هذه المرة هو ذنب إسرائيل". ومقالات ساخرة على أكثر المواقع الإيطالية شعبية، Lerico: "إسرائيل تستنكر: لسنا قادرين على حماية حدودنا، إنها تتوسع بسرعة فائقة".
فرانتشيسكو تييري، خبير معلوماتي ومحرر في جريدة "لا لوتشي" الإيطالية، أكّد من جهته أن الانحياز للصهيونية في الإعلام يبدو هذه المرة أقلّ بكثير من حلقات الصراع السابقة. على الصعيد الشعبي، أكّد دافيدي بيكاردو، رئيس "تنسيقية الجمعيات الإسلامية في إيطاليا"، أن ميلانو شهدت مؤخراً إحدى أكبر المظاهرات في السنوات الأخيرة، وذلك دون أي تأطير سياسي أو مؤسّساتي، حضرها بالدرجة الأولى شباب غير مؤدلجين ولا يحملون أي خلفية سياسية.
فهل هو انحياز البشر الطبيعي إلى مَن يقاتل في سبيل الدفاع عن نفسه، والذي لا يحتاج لأيّ تخندق أيديولوجي، أو تحكّمٌ في تقنيات الدراما، أو ارتداء فساتين دولتشي غابانا لتقنع الذوق الغربي بعدالة قضيّتك؟
"الربّ لا يساعد مَن لا يثابر" (القديسة تيريزا دافيلا)، هذا ما يتعلّمه الإيطالي من ثقافته الكاثوليكية. والأكيد أن الفلسطيني أظهر في هذه الانتفاضة أن لديه فائضاً من العزيمة من شأنه دفع العالم للانحناء لمقاتليه الشرفاء المدافعين عن قضيتهم، تاركاً أطروحة الانتحاب الأبدية لأصحابها. فهل سيستغلّ المثقّف الفلسطينيّ هذه الفرصة لكسر طوق الارتباط برخويات نضال المهرجانات، ويتّجه نحو استعادة حقّه في تمجيد المقاومة الحقيقية لأبناء شعبه على الأرض والتي أثبتت أن العالم لا يحترم سواها؟
ما لا شك فيه أن المنطق الجديد الذي فرضته الانتفاضة الفلسطينية لم يقلب موازين السياسة في المنطقة فحسب، وإنما أعاد للغربي الحسّ الطبيعي لتمجيد البطولة. وهو مَن تبين أنّه يحنّ في قرارة نفسه إلى زمن الفروسية الذي لا يخشى فيه المقاتلون النزال للانتصار لكرامتهم، بعيداً عن السرديات المتهاوية لحقبة ما بعد الحداثة والتي حاولت عبثاً أن تساوي بين جبن المتخاذلين وعنفوان المقاومة.
* روائية جزائرية مقيمة في إيطاليا