الفصحى المنتظرة

11 أكتوبر 2020
"تاء" لـ حامد عبد الله
+ الخط -

في أواسط القرن الماضي صعدت في الثقافة العربية، تجاه اللغة، أتاتوركية متأخّرة نسبياً. تراءى لكثيرين أنَّ انقسام هذه اللغة إلى فُصحى وعامية أمرٌ ينبغي تخطّيه. خاصّةً أنَّ العاميات تنمو وتتقدّم منذ قرون وتتسرّب إلى القصص والشعر كما هو في حال "ألف ليلة وليلة" والقصص المحكي. كان المثال الواضح في ذلك هو اللغات التي انشقّت عن اللاتينية، وصار لها كيانها وآدابها واستقلالها التام. كانت العاميات العربية على وشك أن تتحوّل إلى لغات، حينما خطر لكثيرين بدوافع مختلفة منها ما هو سياسي وما هو غير سياسي، أنَّ المسار الغربي لا يزال متاحاً، وأنّ الخروج إلى عددٍ من اللغات تتفرّع عن اللغة الأم، هو ما يكاد أن يكون حتمية تاريخية، بشهادة المثال الغربي وحضوره.

كان واضحاً أنّ الأمور جميعها تدعم هذا التوقّع. الرواية، ولو لزمت الفصحى، تبدو محيّرة بالنسبة إلى مسألة اللغة. كان على فصحاها أن تواكب العاميّة وتشتق فيها نوعاً من اللغة الوسطى. كان هذا قبل أن تُطرح مسألة الحوار التي انتهت، بالأكثرية إلى سيادة العامية عليه. ثم كان المسرح الذي بدأ كالمعتاد بالفصحى، قبل أن يسلّم بأن ازدواج اللغة لا يتيح له أن يستحضر على الخشبة لغة الكتب. هكذا خلص المسرح إلى العامية. أمّا السينما، فلم تحتج إلى هذه الحيرة. بدأت تقريباً بالعامية، وما دار فيها بالفصحى، سقط من تلقاء نفسه. هكذا بدا أن الفنون الجماهيرية كلّها تعتمد العامية، وأن الفصحى تبقى محفوظة لنخبة قليلة لا تزال تستمد من القراءة متعتها.

كان منتظراً والحال هذه، أن يتسرّب الإملال، شيئاً فشيئاً إلى هؤلاء، وأن تغزو العامية الحقول كلّها، وعلى رأسها ذلك الحقل الجماهيري: الصحافة وبعدها الراديو فالتلفزيون. هذا الحقل بقي أميناً للفصحى بمقدار، إذ إن فصحاهم كانت بالتأكيد تواكب العامية، وتشق في الفصحى لغة موازية لها. لا بد أننا هنا نتذكّر الخطابة وهي أيضاً فن جماهيري. بدأت الخطابة فصيحة، كما بدأ سواها، لكن سرعان ما استدركت وصارت مخلوطة بالعامية. كان من الواضح أنّ ما يمتُّ إلى السياسة كالخطابة الجماهيرية ونشرات الأخبار والحوارات السياسية، لا يزال يتمسّك بشيء من الفصحى، أو لا تزال الفصحى عمدته، وما ينتابه من العامية يتعلّق على الفصحى أو يبدو من تنويعاتها.

ما ننتظره وما تنتظره الفصحى قد يكون عصياً على التوقُّع

لا يزال الزمن في خدمة العاميات. مع ذلك بقي الأدب المكتوب، الرواية والشعر، أميناً للفصحى، رغم أن للعامية شعرها، بل وحتى جزئياً روايتها، فالسيَر؛ "السيرة الهلالية" وسواها والقصص الشعبي، تبدو صادرة تقريباً عن عامية مفصّحة. بقي الشعر والرواية ككل أمينَين للفصحى. ما لبثت الحملة لإرساء العاميات أن تراجعت وتوقّفت وتركت المسألة لمجراها في الزمن، بدون أن تعتمد في ذلك على دعوات أو حملات. الآن يمكن القول إنَّ كلّ شيء معلّق في هذا الصدد. يمكننا فقط أن نراقب ونحصي. لا بد أن الهاتف الذكي وفيسبوك كانا، بادئ بدء لمصلحة الاثنين، لكن الأمر سرعان ما لحق بالمسار القديم نفسه. لم تلبث الفصحى مع جماهيرية فيسبوك أن لحقت بالعامية، فيما تتواصل قلّة متزايدة بالفصحى. مع ذلك، فإن فايسبوك يخدم، على نحو ما الفصحى، إذ يعيدها من جديد إلى سباق كانت، من قبل، قد خرجت منه.

مع ذلك، فإن هناك في الأيديولوجيا العربية المعاصرة، إذا استعملنا عنوان عبد الله العروي، أشياء يصعب تبديلها، ولا يكفي من أجل ذلك اقتراع جماهيري. القومية والدين ليسا متعاكسين كما يظن البعض، إذ يجعلان مبادئ بعينها عصية على المراجعة واللازمنية. مهما يُصِب اللغة العربية، فإنها تحوي كثيراً من هذه المبادئ. إذا كان الشعر مثالنا، فإن تطوّره إلى ما هو أقرب من الحياة المدينية والتعبير الدارج، لا يحمل رغم ذلك أي إيعاز باعتماد العامية، كما أن الرواية لا تتّجه إلى ذلك. كلّ ما يمكن أن يسفر عنه الأمر حالياً هو جرّ الفصحى لتكون، أكثر فأكثر، عامية مفصّحة.

ما ننتظره وما تنتظره الفصحى قد يكون عصياً على التوقُّع، لكن الفصحى لا تزال تواجه باسم القومية وباسم الدين وهما مقدَّسان وحصينان. لكن الفصحى أثناء ذلك تتغيّر وما يمكن توقّعه هو نوع آخر من الفصحى تبقى مع ذلك هي الفصحى نفسها وقد استطاعت أن تخترق الزمن وأن تبقى في المواجهة. ما من مشروع مطروح الآن لتحويل العاميات إلى لغات، لا تزال الفصحى، أو أي نوع من الفصحى، هي اللغة القائمة. والحق أن العامية تقترب أيضاً من الفصحى بقدر ما تقترب الفصحى من العامية. لا يمكننا أن نفكّر في أن ثمّة لغات عربية متعدّدة على وشك الظهور. ثمّة لغة واحدة وستفعل ما في وسعها لتبقى، على أي نحو كان كذلك.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون