العار اسماً آخر للتاريخ

26 مايو 2024
طفل فلسطيني يقف فوق أنقاض منزله الذي دمّره العدوان، رفح، 22 أيار/ مايو 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- النص يبرز معاناة اللاجئين والمشردين الذين يتركون أوطانهم بحثًا عن الأمان، حاملين ذكريات وجروح الحروب والنزاعات التي شهدتها أراضيهم.
- يعكس الحنين إلى الحياة قبل النكبة، حيث كانت الأرض مزدهرة والحياة بسيطة ومليئة بالأمل، بعيدًا عن ظلال الحروب والدمار.
- يسلط الضوء على الوضع في فلسطين، مُقدمًا صورة للدمار والفقدان تحت الاحتلال، مع التأكيد على قوة إرادة الشعب الفلسطيني وتصميمه على النضال من أجل الحرية والعدالة.

لاجئون

أداروا ظُهورهم للزمن
حملوا حياتهم في أكياسٍ وانطلقوا بعيداً
كانوا شعبَ التراب، تنعّموا بثمار أرضٍ
كدحوا كي يُنبتوا بُذورهم فيها ليُغذّوا أطفالهم جيّداً.
حين رحلوا
وضعوا قبضةَ ترابٍ في جيوبهم.
تركوا خلفهم أرضاً عشقوها
تذكّروا آنيةً فخّاريةً
أراضيَ كُنستْ جيّداً
أيامَ عملٍ في ضوء الشّمس
أبواباً صنعوها من خَشَبٍ صلبٍ
رائحةَ اللوز في الريح
صوتَ إطلاق النار في الليل
نوافذ حطّمتها قنابل يدوية.
عرفوا طُرق الجنود
ذكريات الأحذية المُوحلة
طَعْمَ الجلد على أسنانهم،
أطفالاً ماتوا دون أن يعلموا أبداً
أجساداً اشتعلت في مُهودها
ودُفنت في قبورٍ مُرتجلة.
كانوا اللّاجئين والمحرومين والمذمومين،
أمّهات الضائعين والراحلين،
آباء الذين بُترت أعضاؤهم
ضحايا حرب أُخرى
إبادة جماعية أُخرى مجنونة.
كانوا ملوك السنغال
يهود ألمانيا وبولونيا
كانوا أبناء توام
وبنات النكبة
القبائل التي أُبيدت في وونديد ني.
كانوا من اختفوا وصُلبوا،
غواتيماليّين هاربين
آلاف الموتى في بابي يار
وعرباً رُموا جانباً وطُردوا من فلسطين
التي وُلدوا فيها وحيث قال المسيح:
"طوبى للرحماء، لأنهم يرحمون".
لكن ما من أحدٍ يرحم اللّاجئين هُنا على الأرض.
قُذفوا خارج التاريخ
أُجبروا على الرحيل وهربوا
من نبوخذ نصر ونتنياهو، من الرئيس الأميركي الثالث والأربعين وبن غفير
من هيملر، وهنري كيسنجر وعيدي أمين.
قَتَلةٌ كلّ من لا يصدّون الوحش،
قتلةٌ كلّ من أفلتوا الجنون من عقاله على سانيتاغو
وفورت بيلو وإل موزونتي وشاتيلا وساند هيل.
ماذا بوسعنا أن نقول أكثر؟
فالقائمة تطول
نشعر حيالها بالعار
تدين الجشع القاتل وسفك الدِّماء
تكشف ذبح الأبرياء
تورّط بايدن السيِّئ
إرهابيّين من الأنواع كلّها.
هناك أبناءٌ وبنات تحت المطر
يحملون جرحى على ظُهورهم
خارجين من مُدن تحترق،
من الأنقاض الدموية لوارسو ودريسدن ونانكينغ وغزّة.
إنّهم اللّاجئون، المذمومون والمحرومون
لا تكترثوا بيأسهم
فما من شيءٍ ينقصهم هُناك 
سوى الطعام والماء والدّواء والمأوى
سوى حيواتهم المسروقة، 
وخرافهم المذبوحة
سوى جُبنتهم وخبزهم وتينهم
سوى حدائقهم الجميلة 
وأمواتهم الذين لا يُحصى لهُم عدد.   


■■■


قبل النكبة

لم تكُن الأرضُ خاليةً
ولا الصحراءُ قاحلةً
أزهرت فيها أشجارُ ليمونٍ ونخيل.
كان الهواء نقيّاً وله طَعْم البحر.
لم تكن هناك وفرةٌ في النقود 
لكن كان ثمّة عدس في الإناء 
وبرتقالٌ حلو المذاق،
وعسلٌ للخبز
ماءٌ للشرب وطعامٌ للأكل
ولم يكن هناك جيش إسرائيلي 
يقتل الناس في كلّ مكان.
لم تكن هناك جثثٌ في الشوارع
ولا بشرٌ غير مرئيّين
كانوا ما يزالون أحياء
عاشوا حياتهم وزرعوا أرضهم
ارتدَتِ الريحُ وجوههم
وكان للطقس أثره على جلودهم.
وُلدت عظامهم من الشمس والملح
اشتغلوا في الحرّ
ارتاحوا في الظلّ
اجتمعوا عند البئر
رقصوا حول النار
عاشوا إلى أن ماتوا
احتلوا موقعهم الصحيح في الزمن
ولم يكن هناك جيش إسرائيلي 
يقتل الناس في كلّ مكان.
وُلد الأطفال في العالم وعاشوا
ذهبوا إلى مدارسهم وظلّوا أحياء
لعبوا في الخارج وظلّوا أحياء
ناموا في الليل وظلّوا أحياء
نهضوا في الفجر وظلّوا أحياء.
منحهم آباؤهم الحبّ
وأمّهاتهم الطمأنينة.
كانت الشمس تحكم أيّام القيظ
والأرض تغنّي
حين يثمر شجر الزيتون بقدوم الربيع.
لم تكن الحياة عادلة دوماً
والجمال لا يكفّ عن الهرب.
كانت هناك أسبابٌ للمعاناة
وأُخرى للأمل.
كان البدين يسير مع النحيف جنباً إلى جنب
والمرء ينضح عرقاً من العمل
وللحياة إيقاعها.
كانت المنازل تضجّ بالضحكات
وللحُزن موسيقاه
وفي الأرض حرّية.
كان للناس صوتٌ
ولم يكن هناك جيش إسرائيلي 
يقتل الناس في كلّ مكان.
لم يكن الأطفال أهدافاً
لم تكن الصحراء بُوراً
كانت الأرض خصبة وصلبة.
كان ثمّة أسبابٌ للفرح
ومناظر حريٌّ بأن تُرى.
كانت هناك مُتعة ملموسة
وهدايا تُهدى.
وكان من الممكن للناس أن يعيشوا
ومن السهل أن يحبّوا.
كانت هناك أسباب للإيمان.
لم يكُن هناك جيش إسرائيلي 
يقتل الناس في كلّ مكان.
قبل النكبة
كانت الشوارع آمنةً تضجّ بالحياة.
لم يكن هناك دخانٌ يحجب الشمس
والأيام مكرّسة للعمل واللعب.
وكان القمر يزور بلداتهم ليلاً
يحسبُ الوقتَ بنجومٍ بعيدةٍ كالفردوس
قريبةٍ كفلسطين
حين كانت فلسطين لهم
ولم يكن القتل يحدث في كلّ مكان.

يحسبُ الوقتَ بنجومٍ بعيدةٍ كالفردوس، قريبةٍ كفلسطين


■■■


فلسطين

من المكان الذي أقفُ فيه أرى تلال فلسطين
تلتهبُ وتَحْمَرُّ ليلاً،
من المكان الذي أسكنُ فيه أرى الأرضَ المقدّسة
تُدَنَّسُ بين الأنقاض دون أخلاق
يدمّرها وَحشُ الجشع.
أرى شعبَ لغةٍ عريقة
من نَسْلٍ موهوب، باركتْه الكرامة والنعمة،
يُجْبَر على الفرار إلى أمكنةٍ لا تصلُ إليها صلواتُ البشر
يُدْفَع على طريق النار أو يُرْمى كي يموت
تحت أنقاض أعمالنا المشوهّة والملطّخة بالدم.
من المكان الذي أعيش فيه أسمعُ صوتَ الأسى
تحت المطر والزمهرير
ينشج حيث تموت أشجار الزيتون
عمياء في ريح تلتهب
حيث يُنقَّبُ عن جثث المفقودين والأطفال،
عن موتى مدفونين،
عن الحطام المتناثر لجرائمنا.
نسمع صوتاً يُنادينا
من داخل الموسيقى والكتب
من الجمال والبراري
من الأساطير القديمة ومستودع المعرفة القديمة
يتحدّث معنا عن اللطف
إذا لم نُصْغِ إلى ندائه سنضيع
ونتلاشى.
السماء تعجّ الليلة بالمُسيَّرات القاتلة
فوق هضاب فلسطين
الأسلحةُ القاتلةُ
مجهّزةٌ ومتعطّشة
لقتل من يعرفون 
أن كلّ نَفَسٍ يدخل رئاتهم قد يكون الأخير.
نحن أطفال النهاية
نصنعُ الانتحار ونسمّيه الناتج القومي الإجمالي
نحن تائهون وحمقى،
عالقون في الداخل
مسافرون يموتون على طرف طريقٍ
تتناثر عليه الآن أشلاء 
أطفال صغارٍ جدّاً لم يستطيعوا الجري
وكبارٍ في السنّ انتُهكت كرامتهم.
إذا كنتم تؤمنون بأيّ نوعٍ من أنواع الصلوات
تعرفون أن هناك طريقة أفضل 
داخل الصوت الذي يُنادينا
صادحاً بجمال العتمة
بهدوء مرحّبٍ في الريح
بإيقاع صامت في الأغنية
وترنيمة للأشياء التي نحبها كلها
بعذوبة حتى في التلف
وحكمة مُؤلمة في حقّنا بمعرفة
أنّ العار اسم آخر للتاريخ.
إنه صوت النعمة البشرية
يحسب حساب فضيلتنا
يحترق خارج نطاق الحرارة
يزأر ضدّ نتانة الحرب
وإحساسنا الفاشل بالرقة
والمطالب الكريهة للإبادة الجماعية.
إنه الصوت داخل الريح
يبعث الإيمان
أينما طلعت الأزهار ضدّ الجفاف
أو سافر النائمون في الليل
كي يحلموا خارج هذا العقل السائد
بأيامٍ قادمةٍ أفضل.  


■■■


ما قاله موسيقيٌّ فلسطينيٌّ عن الشمس والعودُ في يده

قال: لا توجد طريقة لفصل المعاناة عن النعمة،
إذاً لماذا يجب أن نهجر الجمال في وجه الخوف؟

قال: حانَ الوقتُ كي ننتبه بدقةٍ إلى
الريح وهي تدفع العالم الأوسع كي يتحدّث معنا عن الانسجام.

قال: نتذكّر كلّنا الآن
نهارات الدمار، ليالي اللهب
عَهْدَ الرُّعب الذي نتمرَّد عليه 
بالتناغم وصوتٍ عميقٍ جدّاً يتعذّر فهمه
لكنه عذب بما يكفي لتشريف
الأحياء والأموات.

قال: يختبئ المخلّص في عقلنا
في موضعٍ
بين الألحان التي نولّدها
كي نحتفي بالرغبة.
قال: لا يوجد زعماء 
في هذا الفردوس من الحرفة الطائشة والمتطلّبة
لا عار في الجمال القبيح
أو عرين الضحك الصاخب.
في الصالة المضاءة بسطوع 
ثمّة تعرّف جامح ومفاجئ
لحقنا في البحث عن الطعام في خرائب التاريخ
كي نصوغ من القلق هناء
كي نرفل في نعيم العقل
حيث حبّات الزيتون في مائها المُملّح
 وأشجار الأرز تتمايل في الريح
هذا وحده
سيعلّمنا كيف نمتطي صهوة أمنياتنا ونعود إلى فلسطين.

قال: نعود اليوم
بألحانٍ عريقة
كي نبيّنَ كيف يمتزجُ الميراثُ
بالكرامة والمعاناة
كي ننقذ المهد في أغنيتنا
كي نتقاسمَ الجمال في الأمكنة كلّها
ونسافر في الزمن القديم
كي نفهم لماذا
ستشرقُ الشمس على كل أرضٍ
ويأتي الناس حاملين الهدايا في أيديهم
بقلوبٍ حيةٍ وأذهانٍ مبتهجةٍ
لشفاء الأسرار الجريحة.

من الأنقاض الدموية لوارسو ودريسدن ونانكينغ وغزّة


■■■


رسالة روميو الأخيرة

يا جولييت الغالية، إسرائيل تقصفُ غزّة مرّةً أُخرى
تدمّرُ المستشفيات والمدارس.
الأرضُ ترتجفُ من صرخات الجرحى
الأطفال يُدْفَنون تحت الركام ويستحيل العثور عليهم.
ها هي أسماؤنا المشهورة تتلاشى
فيما نموت هنا
نحن شعب فلسطين
المُصمّم على مواصلة الحياة،
الشعب الذي يحبّ الأرضَ والشمس
الذي أجبره التاريخ والمصير
على السفر عبر الكارثة
وجرائم إسرائيل
والقبضة المُهلكة للإبادة الجماعية.
أيتها الصديقة الحبيبة،
ربما أنا وأنتِ ما زلنا صغيرَين جداً لا نفهم
لماذا يتخلّى العالَم عنا
ولماذا يخوننا الغرب
ولماذا الشمال العالميّ يتبنّى الإبادة الجماعية
لكن هنا في غزّة حيث لا يتوقّفُ القصفُ أبداً
لن نكون أنا وأنت صغيرَين بما يكفي كي لا نُقتَل.
قد لا نلتقي مرّة أُخرى يا جولييت،
لكن من المركز النازف
لهذا الحصار المتواصل
أرى قمر الصحراء
الذي أضاء الطريق لصلاح الدين
يعلو فوق شوارع فلسطين
فوق الأحياء والأموات
يعبرُ كسفينةٍ بيضاء شاحبة
عبر وجه الفردوس 
والنجوم الزرقاء التي لا تُنْسى.


■■■


تهويدة الملجأ الأخيرة

من أشدّ الأماكن أماناً
حدّقْنا بهم من خلال نقاط الشاشة الضوئية الصغيرة والدخان
بدَوا كأفضل أطفالٍ في العالم
ومكتملين إلى حدّ كبير.
لم يكونوا مشاكسين،
أو غريبي الأطوار أو مُتعبين الليلة.
كانوا مُسالمين وهادئين، وقريبين إلى القلب.
لم يبكوا من أجل الحليب،
 لم يتوسّلوا من أجل الطعام ويطالبوا باللعب
لم يبكوا من أجل الماء أو الزبدة أو الخبز
كان سلوكهم رائعاً وبدَوا في غاية العذوبة.
ثم أطلقنا صرخةً مفاجئةً حين أدركنا أنهم موتى.
هؤلاء هم أطفال فلسطين
لم يعودوا قادرين على التذمّر
من حياة عاشوها.
جاء القتَلةُ كي يدفنوهم في قبورهم
حيث لن يبكوا مرّة أُخرى أبداً
كي يوقظوا آباءهم وأمّهاتهم في الليل.
لن يُسمح لهم أبداً 
أن يسيئوا التصرّف
أو أن يُطاردوا الريح مرّة أُخرى،
أن يُخالفوا قاعدة أو يهربوا من درس
أن يَتحدّثوا معنا عن السعادة
أن يَسيروا إلى المدرسة لوحدهم أو مع صديقٍ عزيز
أن يَكذبوا كذبة بيضاء أو اثنتين
أن يضحكوا بصوت مرتفع
أو أن يخجلوا ويمتنعوا عن الكلام
أن يقبّلوا، أن يشتاقوا لفتاة، أن يتمنّوا أمنية
أن يلعبوا لعبة الأحمق
أو يتعلّموا فن الكوميديا
أن يتوقوا إلى الله مع كلّ نَفَسٍ
ويكتبوا أنشودةً للفردوس،
أن يعشقوا الشخص المناسب مرّة
أو أن يتساءلوا لماذا ذُبحوا
في مهودهم
ولم يُدعَوا للحياة أبداً، 
ووُلدوا كي يموتوا فحسب.


* ترجمة عن الإنكليزية: أسامة إسبر


بطاقة 

KOS KOSTMAYER

KOS KOSTMAYER روائي ومسرحي وشاعر أميركي مقيم في نيويورك. صدر له عدد من الروايات عن دار "سيسيرو بوكس"، منها رواية "فارغو بيرنز"، التي تُرجمت إلى العربية وصدرت عن "دار خطوط وظلال" عام 2022. حصل على "جائزة دائرة نقّاد المسرح" لأفضل مسرحية، كذلك حصل على "جائزة المسرح التجريبي" و"جائزة الجمعية المسرحية الأميركية"، وتُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات. تصدر له قريباً رواية بعنوان "سياسة اللّامكان" ومجموعة شعرية بعنوان "فلسطين"، اخترنا منها القصائد المنشورة هنا، وهي تستلهم الفاجعة الفلسطينية في غزّة وتدين حرب الإبادة الصهيونية المستمرّة ضدّ الشعب الفلسطيني.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون