الصادق مازيغ.. ترجمة القرآن في منعطفات تونسية

10 فبراير 2022
الصادق مازيغ في بورتريه لأنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

غالبًا ما تُرافق ترجماتُ القرآن مُنعطفاتِ التّاريخ الكبرى والانتقال عبرها من نموذجٍ معرفيّ أو سياسيّ إلى آخَر، فتحمل آثارَ تلك التحوّلات الثقافيّة وتطلّعات قسم من المثقّفين إلى إعادة إدماج المعنى المتعالي ضمن منطق التاريخ المُحايث، من خلال النقل بما هو عمل تأويليّ. وهذا ذاتُه ما حصل في تونس، في بداية ثمانينيات القرن الماضي، حيث فَشلت أيديولوجيا الوَحدة العربية وتحطّمت أحلام الاشتراكيّة وما باطَنها من خطابٍ عِلماني قاده الحبيب بورقيبة، مُجفّفًا بسياساته التغريبيّة ينابيع الفكر الديني وقاطعًا مع التراث الزيتوني العريق.

وفي هذا المنعطف، تتنزّل ترجمة الكاتب التونسيّ الصّادق مازيغ (1906 - 1990) لـ القرآن، والتي أصدرها سنة 1983 عن "الدار التونسية للنشر"، بمساعدة محمد بن العربي ولطيفة جعايدي وعفيف كشك، وقد استهلّها بمقدّمة طويلة نسبيًّا (من قرابة خمسين صفحة) بيّن فيها القناعات والحوافز التي دَعته لإنجاز هذا العمل، ومن بينها "مُقاومة الإلحاد"، الذي عَدّه مازيغ انحرافًا عن الهدى بعد أن شاعت تيّاراتُه في أوساط المثقفين، ولا سيّما من ذوي التكوين الفرنكوفوني. وقد كان الإلحاد يعني، آنذاك، النزوع إلى تسليط التفكير العقلي على النصّ الديني، وربما البحث عن تناقضاته الظاهرة، وهو يوحي، في العمق، بمدى اتّساع التجاذب بين النموذجين؛ التقليدي والعلماني الغربي الداعي إلى طرح المرجعيّة الدينية ونصوصها واعتبارها معارِضة للتطوّر والحداثة.

ولذلك، رأى مازيغ أنّ ترجمته لا هَدف من ورائها سوى ردّ المحتار إلى أن تتحقّق ذاتُه بما هي روحٌ عطشى، عبر السعي إلى تجاوز الفاني ومعانقة الباقي؛ فهو يقول صراحةً: "نهاية هذا العصر أقرب إلى جاهليّة جديدة، طغَت فيها المادّة وهيمنت النزاعات الشهوانيّة". ولذلك عملَ، من خلال تجويد اختياراته المعجميّة والبيانيّة، على إعانة ذوي الإرادات الحَسنة، إمّا على تقوية إيمانهم أو على اكتشافه للمرّة الأولى، ممّا يشي بالأجواء الفكرية التي سادت في تونس خلال فترة السبعينيات والثمانينيات. كما جهد في تجديد خطاب الروحانيّة وبثِّ حسّ التقديس وإحيائه عبر إعادة تقديم نصّ القرآن والتمهيد له باعتبار أنّه يظلّ، في نَظره، طريقَ الملكوت الخالد ويتضمن أبعادًا أخلاقيّة عميقة، وقع تغييبُها لحساب القراءات السياسيّة العارضة.

انتهج في ترجمته للقرآن بساطةَ المنهج ووضوح العبارة

ولذلك، بنى الصادق مازيغ ترجَمَته على قناعة مفادها أنّ ثراء هذا النصّ المعجمي ودقّته البلاغية يهيّئانه إلى التعبير عن الحقائق المتعالية، بمعنى أنّ "الطبيعة الذاتيّة" للضاد هي ما ساعد النصّ القرآني على أن يكون حمّالًا لهذه المعاني، دالًّا على ما فيها من حَقائق خالدة. ولئن بدا هذا الموقف إيمانيًّا مَحضًا، فإنّه لا يخلو من وجاهة ألسنيّة، ذلك أنّ من بين مدلولات القرآن ومراجِعه الثابتة، نجد حديثًا عن الموت والحياة والعدم والوجود والكون والمصير والناسوت واللاهوت، وهي كبريات القضايا التي تشكل كونه الرمزي والتي خاضت فيها سائر الأديان والفلسفات وحتى الفنون، وكلٌّ تناولها من منظوره وبأدواته التعبيريّة الخاصّة، إلّا أنّها في النصّ القرآني شديدة الصِّلة بطبيعة التصوير البيانيّ والتراكيب النحوية، فضلًا عمّا يحمله معجمهُ من شُحناتٍ دلاليّة كثيفة.

ولذلك، فإنّ نقل هذا النمط العالي من الكلام يَجعل من كلّ ترجمةٍ "مغامرةً" وارتماءً في المجهول، وتساؤلًا حول قدرة المترجم على النهوض بأعباء المعنى وتحويل الخصوصيّات الأسلوبية في اللغة الأصل إلى لغة المآل، وهي هنا الفرنسيّة. ولهذا، ذكّر مازيغ بأنّ قيمة ترجمته لا تتمثّل البتّة في كونها الأفضل، وإنما الأحدث في عصرها، بعد أن مرّت أكثر من ثلاثة عقود على صدور ترجمات ريجيس بلاشير (1957)، ودُني ماسون (1967)، ومحمد حميد الله (1977)، وكلّها ظهرت في باريس، إلّا أنها لم تزدهر ولم تشعْ لدى القرّاء العرب ممّن يعرف الفرنسيّة.

غلاف ترجمة الصادق مازيغ للقرآن ـ القسم الثقافي

كما أنّ جِدّة ترجمة مازيغ ليست زمنيّة فقط، وإنما هي في "بساطة المنهج ووضوح العبارة" اللذين انتهَجهما على عكس الترجمات السابقة. فالهاجس الذي حكَم نَقله يكمن في الاختيار الوجيه بين بعض المفردات والمصطلحات الفرنسيّة التي سادت كمقابلاتٍ للمفاهيم القرآنية الكبرى، ثم الترجيح بينها من أجل اقتراح المقابل الأمثل الذي يساعد المتلقّي على فهم الخطاب القرآنيّ في لغة تعوَّد عليها، تلافيًا لسجلّ الغريب النادر في اللسان الفرنسي. ولتسهيل المطالعة وتيسير المقارنة، قَسّم كلّ صفحة من صفحات الكتاب إلى قسميْن متقابليْن: عربيّ وفرنسي.

ويصرّ المترجم على أنّ هذه الترجمة، مثل سوابقها ولواحقها من الأعمال، لا تنقلُ كليّةَ النصّ القرآني ولا كثافة دلالاته ومعانيه، لأنّه "بلاغ" أو "خطاب" ربّاني لا تنفد منه الاحتمالات ولا الوجوه. وختم مقدّمته باستعراضٍ موجز لسيرة النبيّ عَنوَنها: "سيرة من أجل الواحد"، تطرّق فيها إلى أهمّ الأحداث التي عاشها الرسول من أجل إظهار دعوته وإتمام رسالة التوحيد.

ولإنجاز عمله، اتّكأ مازيغ على رصيدٍ وافٍ من المعلومات التاريخيّة واللغويّة حتى يتحقّق من معاني الكلمات وينقلها بشكل سليم وبليغ، فضلًا عن كُتب التفسير القديمة والمعاصرة له، وهي طافحة بكلّ الموارد الضروريّة لتيسير عملية النقل، فاعتَمد التحاليل الموضوعيّة المحورية والأسلوبيّة التي نهض بها جول لوبوم Jules Le Beaum في كتابه "القرآن مُحَلّلًا"، حيث أعادَ هذا الكاتبُ الفرنسيّ استعراض آيات القرآن بحسب مَحاوره، معتمدًا بدوره تَرجمة ألبر كازيمرسكي. كما عاد مازيغ إلى تفسير "التسهيل لعلوم التنزيل" لمحمد بن جُزَي الكَلبي (1293 - 1340) دون أن يذكر سببًا واضحًا لتفضيل هذا المفسِّر على غيره واعتماده مرجعًا للترجيح بين التأويلات، لكن ربّما يكون ذلك لإيجازه.

تجنَّبَ الإفراط بالتأويل خشيةَ التأثير في قناعات القارئ

وقد فرض المترجم على نفسه سلسلة من "المحرّمات"، كما أسماها في المقدّمة، منها اعتبار كلّ التأويلات الشائعة وجهة نظرٍ شخصية، صاغها مؤلّفها. وعدَّ الدفاع عنها بشدّة - كما لو كانت التأويل الوحيد الصالح - خطأً، وذلك لتجنّب التأثير في قناعات القارئ، فامتَنَع عن المساس ببراءة المتلقّي، تاركًا له مطلق الحرّية في أن يكتشف بذاته المعنى دون إثقال أو تأثير. وأمّا القناعة الثانية، فهي اعتبار النصّ القرآني ينضَح بنَفَس الصِّدق والحقّ، بحيث يبدو كلّ موقفٍ منحازٍ بمثابة تشويه لذلك المعنى الأصلي ومساس بواجب الموضوعيّة والأمانة.

ختامًا، يحقّ لنا التساؤل: بأيّ معنًى يمكن الحديث عن مدرسة تونسية في ترجمة القرآن؟ وذلك بالنّظر إلى وجود ثلاثةٍ منها، إذا أضفنا عَمل صلاح الدين كشريد وأبحاث محمد الطالبي ويوسف صديق. لعلّ الجواب يكمن أوّلًا في العلاقات التاريخية التي وصلت بين مثقّفي تونس واللغة الفرنسية بُعيد الاستقلال، ثم عمل هؤلاء المثقّفين في فرنسا والاغتراف من آدابها ومناهجها والتضلُّع من دقائق لغتها مع رغبةٍ في خدمة القرآن والتصدّي للعلمنة التي حاول بورقيبة فرضها بقوّة السلطة بعد أن استنفَد أدلّة الفكر.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون