أتساءل عن القوّة التي تمتلكها الكلمات حتى يفكّر الإنسان الفلسطيني في ساعاته الأخيرة تحت قصف وهمجية الصهاينة بالطلب من الآخرين أن يحكوا حكايته، حكاية مقتل الفلسطينيّين أمام الكاميرات، التي تنقل حرب الإبادة منذ أكثر من شهرين. وقبل أن يُسدَل سِتار النهاية على حياة عددٍ ممّن رأيناهم يُقتلون على الشاشة؛ وصلتنا كلماتهم الأخيرة التي تحثُّ على الكتابة. كما لو أنَّ الكتابة تعقب النهاية، ولا تجيء في البدء فقط. الكلمات تعقب المجزرة، وتنقل حكاية حرب الإبادة إلى المستقبل، تضعها أمانة في المستقبل، تضعها أمانة لدى المستقبل.
في كلّ حكاية لنسْف وجود مجموعة من الناس أو المدن، كما يحدث في غزّة هذه الأيام، تنهض الحاجة إلى الكلمات التي تعقب الأثر، وتعيد بناءه. أساسًا، الكتابة في أحد أشكالها عمليةُ تعقُّب وبناء متواصل لأثرٍ زال. فكيف، وما يحدث في مرأى العين لا يحتاج أكثر من انتباه إلى ما يُفقَد. وقد تكون حالة الأكاديمي والشاعر الفلسطيني رفعت العرعير (1979 - 2023)، الأكثر وضوحًا لتمثيل تلك السطوة التي للحكاية في مقارعة الزمن والسيطرة عليه، وفي رسم الزمن ونحته. فالسرد يُعيد شريط الكاميرا إلى بدايته، يفكّك العنف المرئي، ويسنده إلى نظريات السياسة وعلم الاجتماع. ثمّ يعيد إخراج شريط الكاميرا في كلمات تشرح لنا لماذا يُقتل الفلسطينيون؟ ولماذا العرب يعجزون عن حمايتهم؟
الكتابة تبحث عن حيّز تُجيب فيه عن الأسئلة التي تركتها الكاميرا بلا إجابات. كيف بتلك السهولة يُقتل الفلسطيني؟ وكيف صارت كلمات، اليوم، فقراً في التعبير الآني، لأنَّها تعبيرٌ يُلقي وجاهته في المستقبل، فهي كلمات مكتوبة عن واقع تنقله الكاميرا مباشرةً لمقتل الأطفال وأهاليهم.
ما يرويه الأحياء نيابة عن الشهداء هي حكاية الحرّية
الدرس الذي أخبرتنا إيّاه شهرزاد، أن بإمكان الحكاية أن تؤجِّل الموت، وصولاً إلى أن تنفيه. لكن مع حضور الكاميرا التي نقلت الموت كلّ هذا الوقت، فلم يعُد للحكاية دورٌ تقوم به؛ سِوى أن تعقب الموت، وتفرغ مقولة الصهاينة ممّا يودّون إملاءه على الواقع. وهذا دور تقوم به الكلمة الحرّة في كلّ الأزمنة، مع ازدياد الحاجة إليها في الأزمنة الموحشة، حيث موتُ الأطفال موت عارٍ إلى هذا الحدّ الخانق.
المؤكّد أنّ ثمّة إصراراً محموماً لدى الفلسطينيّين، الذين يُواجهون موتهم المباشر، على ضرورة الكتابة، وعلى أن يواصل مَن يعيش من بعدهم، مَن يرى موتهم، مَن يأخذ موقفهم في الصراع، مَن يريد أن يفعل شيئًا ولا يستطيع، أن يواصل الكتابة عنهم ولهم ومن أجلهم. كلماتٌ سمعناها من أطفال وأطبّاء ومُسعفين، ومن أكاديميّين وجرحى وشعراء، جميعهم طلبوا إلينا أن نكتب، أن نروي، أن نقصّ الحكاية.
بالتأكيد، الكتابة التي قصدها العرعير ليست التعليق على خبر استشهاده، ليست التعقيب على الجريمة الإسرائيلية، وإنما تفكيكها منذ البدء. إذ في رواية التاريخ سلطة ينتزعها الضحايا انتزاعاً من القاتل، ويغرزونها في صميم ضمير العالَم الذي تُغرقه الحسابات السياسية والمصالح الاقتصادية. فالكتابة خارج حسابات المصالح، أو هذا ما اعتقد به مَن كان يُواجه الموت المباشر.
عدا عن القوّة التي تملكها الكلمات، توجد قوة دفعت من اعتقد بقدرة مواجهة الطائرة بكلمةٍ يُلقيها إلى المستقبل؛ وهي قوّة الوعي بعدالة قضيّته، وانسجامها مع كلّ حكايات البطولة في تاريخ الشعوب التي انتزعت حرّيتها انتزاعًا من مُستعمِريها. والحكاية التي كتب الشاعر الفلسطيني بوجوب أن يرويها الأحياء نيابةً عن الشهداء، ما هي إلّا حكاية الحرّية. فالكلمات تكتسب قوّتها من مقارعتها وكشفها زيف العالَم الذي رأى مقتل الأطفال مرأى العين.
* روائي من سورية