الرواية سيرةً لحياتنا

23 ابريل 2021
من عمل لـ محمد عبلة، 1995
+ الخط -

تبدو ثلاثية نجيب محفوظ كأنما هي "سيرة شخصية" لتاريخ العالم العربي، لا فيما يخصّ الزمان والمكان اللذين كانت تريد أن تؤرّخ للمصير البشري فيهما، أي سنوات الثورة المصرية في العشرينات من القرن الماضي، بل لما تلا ذلك من الزمان حتى يومنا.

وأكثر ما في الثلاثية ممّا يمكن أن يسبّب العجَب هو أنّه سوف يكون بوسع قارئها العربي اليوم، أن يستعير جُمَلاً، وعبارات، ومواقفَ، وكلمات، من كمال عبد الجواد ومن شخصيّاتٍ أخرى في الرواية، للتعبير عن حالنا الراهن. ومعظم ما يقوله كمال عبد الجواد في الثورة والهزيمة قد يردّده كثيرٌ من العرب اليوم، حتى من دون أن يقرؤوا كلامه في الرواية.

فكمال عبد الجواد كان مؤمناً بالشعب وبالثورة وبقائدها، سعد زغلول، ثائراً ضدّ سلطة الأب، أحمد عبد الجواد، بقدر ثورته ضدّ سُلطة الحكم. وكان يشارك في المظاهرات التي تناهض الاحتلال، وتندّد بالحكم الجائر والاستبداد؛ يخفت صوته الثوري، ويعتريه الشك بالثورة، وبكلّ النظريات التي آمن بها من قبل، حين يموت زغلول، وتنتكس الثورة، ويعود الشعب للخنوع أمام عصا المستبدّ، وبنادق المحتلّين. ومعظم الشباب العرب الذين شاركوا في مظاهرات الثورات ــ وثمّة صور تكاد تتطابق مع صورتهم في ثلاثية محفوظ ــ كانوا يأملون أن تكون كل الأحداث التي يعيشونها صفحةً جديدة في التاريخ العربي. ولكن، للأسف، لا يحدث هذا. لقد انتكست جميع الثورات العربية، وتراجع المدّ الثوري سريعاً، خلال عقد واحدٍ من السنوات.

ثلاثية نجيب محفوظ تُشبه سيرة حياتنا، وهذا مصدر تعاستنا

واللافتُ أنّ سيرة الثورة والهزيمة تتكرّر في الثلاثية، كما يحدث في الواقع، إذ يأتي جيلٌ آخر غير جيل كمال كي يرث المبادئ الثورية، ولكن ما الذي آل إليه الحال اليوم؟ "قبض الريح"، كما تقول الرواية، وهي العبارة التي أُوْلِعَت بها الثقافة العربية (المصرية خاصة) منذ منتصف القرن العشرين. إذ إنها كانت تشير بقوّة إلى الخسارة، بل الخسائر الجسيمة، التي تتكرّر في حياة العرب. بحيث تظهر رواية مثل ثلاثية نجيب محفوظ وكأنّها هي التي تخلق الواقع، لا الواقع هو الذي يملي عليها أحداثها.

هذه واحدة من الخصائص العظيمة للأدب، وربما هي واحدة من تلك الصفات التي تجعل الرواية قابلة للقراءة وإعادة القراءة على الرغم من أنها تحكي عن تاريخ جيلٍ آخر مضى، وانتهت حكايته، أو هكذا يمكن أن نُفكّر في التاريخ.

ما قصّة التاريخ العربي الحديث؟ ما حكاية العرب في القرن العشرين وفي القرن الواحد والعشرين؟ لماذا تتكرّر الثلاثية؟ أي لماذا تتكرّر محاولات الثورة، وانتكاساتها، بحيث يبدو كلام كمال عبد الجواد عن الهزيمة راهناً؟ إذا كنّا نمدح الرواية التي تستطيع أن تتجاوز تاريخ أحداثها، وتكون قابلةً للتعميم على التاريخ المستقبلي، فإننا نلعن التاريخ الذي يتكرّر بحيث يسمح لمثل هذه الكتابة أن تتطابق معه. ذلك أنّ سيرة الثلاثية تشبه سيرة حياتنا، وهذا مصدر تعاستنا وأوضاعِنا المزرية. وهكذا يكون تكرارُ التطابق بيننا وبين أحداث رواية مثل ثلاثية محفوظ، مزيةً تُثبت أنّنا أمام فنٍّ روائي عظيم... غير أنه كارثة في الواقع.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون