الرجل ذو الشاربين الكثيفين

27 مارس 2021
من لوحة "الشاطئ" لـ جورج سير (1880 - 1964)
+ الخط -

الرجل ذو الشاربين الكثيفين
لا يعبر الشارع وحسب
بل يحملُ المدينة في فتحة قميصه
مع أقدام وجِلة
ومعطف يبتسم للشمس 

كل يوم
يمرّ رجل ما
ها هنا، أراه على الرصيف
تحت الشرفة
مقابل الجدار الذي لا نوافذ في قرميده
مبتسمًا لهذا الغياب القائظ الذي سيتركه فوق الشجرة
بوفرة من يتغيرون كثيراً
كي لا يشيبوا على مهل

يغصّ المنزل بالوافدين
يرقص الرجل قرب هذا الجسد الذي ما يزال طفلاً
لعينيك لون اللمسة الأخيرة التي سيتركها هذا العابث على جلدك 
ملتحفًا ضباب الرغبة الشاردة
بوداعة من لا بيوت لهم 
مثل رجل هادر
لا أشباه له في السينما
ولا أزقة ليقطعها في هذا الدخان المتصاعد من غليونه

وسوف يسألك هذا الطفل
كم رجلاً في حياتك
وستبتسم للمتع الهاربة
لأجنحة النوارس
الطافية فوق هذا الوهج
كأنّ السحاب العالق في المنتصف
المركون إلى زاوية لا تُرى إلا من بعيد
نفس متقطّع تهمسه في آذان رجال الأسرّة

أنا رجلك
تهمس في قلب هذا الطفل
لي جسد منكمش
وشعر فوق الصدر
وكلما أحببت أحدهم
ابتلعت نصفه
كي لا يغويني كمال الأشياء التي لا تعبر فيها الريح
إلا لتهزّ غصن شجرة.


2

يأتي الرجل ويرحل
ثم تقبضُ اليد عليه بأطرافها
ولا تلمسه
الرجل الهارب مثل آخر ظلٍ منسي
تحت الشمس

تسيرُ السيارات بمحاذاة الطريق
ولا تسلك الطريق
إذ إن المسافة الشاغرة
تتسع لقيلولة طفل هائم

لماذا نكتب كثيراً عن عزلة العصافير في الشتاءات
وننسى الغيمة
التي لا ينتبه أحد إلى الهجرة التي لا يهبط المطر من دونها
إلاّ يتيمًا
لماذا نكتب قصائد كثيرة عن الموت
الذي يقيم على مسافة مترين منّا
ولا نلتفت إلى هذا الحيوان الصغير
الذي يحبو على مهل
تحت أسرّتنا
بأربع قوائم
كمن يسرق التوت من شجرة جاره
لماذا نحب العيش في المدن الكبرى
ما دامت الأضواء البعيدة
أحلامًا نطلقها بين الفينة والفينة
كي لا يجد الثلج طريقه إلى فروات رؤوسنا
المحتفظة بأغصان القرى المنسية
في عتمتها
لماذا نفتح الباب للحياة
حين لا تريد سوى الانتظار على العتبة
قصيرة
ومتأملة
مثل صدى الضحكات العالقة في السقف
لآخر طفلٍ مرّ من هنا قبل عامين
بشالٍ وثير
وعينين محنّطتين كأتربة الحدائق

أيها الرجال العابرون فوق هذا الليل
تعالوا
لفّوا جسدي بقطعة قماش
اضغطوا على صدري، كي تتقلص الأحياء فيه
كي تتوفى هذه الخرائط
التي لا ترين على شيء
نادوا عليّ من بعيد
كي ألتفت إلى الوراء
لكن لا تندهوا باسمي
فغداً، ستنبت في تجاويف أريكتي
وردتان
واحدة لي
لأنّ طفولتي طافحة بهدير الأيام العابرة
وأُخرى لي أيضاً
لأنه سوف لن يتسنّى ليَ الوقت
لأتعلّم
كيف سأكبر في هذا الصمت
لأصير رجلًا رخيمًا وحسب


* شاعر من لبنان

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون