الثورة التونسية: ما لم يحدث في عشر سنوات

14 يناير 2021
من تونس العاصمة (Getty)
+ الخط -

باهتةً، وأقرب إلى البرود الشعبي والسياسي، تمرّ الذكرى العاشرة للثورة التونسية. زد على ذلك عودة الإجراءات الوقائية من الوباء وموجة البرد.كان يمكن لرمزيّة العدد عشرة، واكتمال عقدٍ على الحدث الذي غيّر الواقع التونسي بلا رجعة، أن يُسعفا ما تبقّى من نزعة احتفالية؛ لكنْ ماذا نقول عن ثورةٍ عرفت، منذ الأيام الأولى، خنقاً لروحها الاحتفالية وبهائها، فلم يبق بعد عشر سنوات إلا أثرٌ بعيدٌ في الضمائر لمشاريع التغيير التي لم تُنجز.

ربما كان هذا الحدُّ الأدنى من الاحتفاء معبّراً في حدّ ذاته، إذ لن يكون لأيّ تظاهرة مِن معنىً غير التذكير بالإحباطات الشعبية، ولن تكون ثمة حاجة وقتَها لعزاءات من قبيل: أوّل ثورة في القرن الحادي والعشرين، الاستثناء الديمقراطي، شرارة الربيع العربي... أي دلالةٍ لذكرى الثورة ما لم تجعل الناس يحسّون، اليوم، بالفرح والفخر؟

هنالك إجماع بأن شيئاً ضاع على طريق السنوات العشر هذه. تدفقٌّ عفويّ جرى إهداره في المعارك الجانبية والمتاهات الصغيرة والعنف المجّاني وتفخيخ الحلول الممكنة.

للتونسييين أن يذكروا بينهم وبين أنفسهم - كما في صلاةٍ - زخَمَ الأيّام الثورية، حين تناثرت الأحلام على الطرقات والساحات، في نقاشات لم تكن تهدأ، أو الشعارات المرفوعة، والتي كُتبت بعُجالة وعفوية، حول العدل والحرية والكرامة. تحدّث بعضهم عن إعادة بناء الدولة من أساساتها، وراح بعضٌ آخر يحلم بالعودة إلى التاريخ، وفتح الطريق من جديد إلى الأمة العربية. ما الذي توقّف بعد ذلك؟

حدث كلّ شيء بسرعة: احتجاجات، مطالب، انتخابات، اغتيالات... حالةٌ من الركض المتواصل مع الأحداث غلّفت الأيام. لم تستمرّ متعة الشعب بالحدث الثوري، فذوت نكهته تدريجياً، ولم تكن هناك بوصلة تهدي في المنعرجات.

مَسْكُ هذه البوصلة هو دور اجتماعي يُفترض أن تتهيّأ له فئة بعينها: جماعة المثقّفين. لم يذهب كثيرون للعب هذا الدور. يظهر اختلال سريع حين يتعطّل أحد الأدوار في الإيكولوجيا الاجتماعية التي لا تحتمل أن تتوقّف خدمات الأمن والغذاء والتربية وغيرها، لكن انعكسات توقّف الخدمة الفكرية والرمزية تظهر بعد حين. هاهي تظهر في الذكرى العاشرة أكثر من أي وقت مضى. وطوال تلك المسافة، كانت الضبابية تلفّ الأجواء، فانكفأ معظم المثقفين في يومياتهم، وحتى مَن تكلّموا ضاع صوتهم في الضجيج. مرّت الثورة كظاهرة طبيعية ولم يكن هناك من يملك مؤهلاتِ علوم الطبيعة كي يروّضها. مرّت كما تمرّ الزوبعة.

كانت الثورة مثل نقطةِ لا عودة في وعي الحرية في تونس

من بين التفسيرات، التي انتشرت سريعاً مع أولى الهزّات، أن فشل الثورة ناتجٌ عن كونها لم تكن مسبوقة بثورة ثقافية. لكن هل الثورة الثقافية ممكنة في بلد كان مختنقاً؟ بمثل هذه الإعاقة كان على ثورة 2011 أن تتقدّم. لم يكن أحد يحبّ أن يعترف بهذه الإعاقة، وكان هذا سبباً آخر في اختيار مسالك لا تفضي إلى أيّ مكان. ببساطة، كانت الثورة - بعفويّتها الأولى - فرصةً لتهيئة التربة لثورة ثقافية. ولا أحد، تقريباً، كان يؤمن بذلك، فضاعت الثورة والثورة الثقافية معاً.

غير أن الحصيلة تبقى إيجابيّة، مقارنةً بالعقد السابق للثورة على الأقل. فإذا كانت حصيلة التنمية الاقتصادية قد تراجعت، فإن الأمر ليس كذلك على المستوى الثقافي. لننظر إلى الرواية، إلى السينما، إلى المسرح، إلى الفنون التشكيلية، وإلى الإصدارات البحثية والتاريخية؛ كلّها حقولٌ استفادت من الهواء الجديد. الإشارة إلى ركود ثقافي في تونس لم تكنتعني أبداً الحديث عن ركود المواهب الإبداعية، وتلك مفارقة البلد ومتاهته: كيف لا تتدفّق هذه الإسهامات وتتلاقى وتشتبك فتخلق ربيعاً؟ 

كثيرة هي الأسماء التي ظهرت واتّخذت لها مواقع في الخريطة الإبداعية، بل فتح بعضُها طرقاً غير معبّدة، واشتغل بعضٌ آخر في صمتٍ، لا يهمّه إن بقي غير مرئيّ. ذلك أنّ الجميع فهم، مع ضمور وهج الثورة ورمزيّاتها، أنّ أجهزة الدولة ستظلّ المحرّك الرئيسي للحياة الثقافية، ليذهب بعضٌ للاستفادة من الوضع القائم، ويوغلَ آخرون في مغامراتهم.

كانت الثورة كنقطةِ لا عودة في وعي الحريّة في تونس. هذا المعطى كافٍ لإخصاب الثقافة في انتظار عوامل أخرى، معظمها لم يأت. يبقى أن القليل أفضل من لا شيء. تجلّت ثمار الحريّة مثلاً في انفتاح الإعلام، بما هو ضمانة لجميع القيم الاجتماعية التي آمن بها الناس، فظهرت عشرات العناوين الصحافية في 2011، وعدد من الإذاعات والتلفزيونات، ولكنّها انهمكت في اليوميّ والصغائر ولم تقدّم خدماتٍ ملموسةً لطموحات الشعب الأولى. وبعد سنتين، ستبدو الصحافة (المكتوبة خصوصاً) مثل مشهد الأسماك التي تطفو ميّتةً في بحر ملوّث بزيوت الباخرات والمصانع. لكن هل ماتت الأسماك بسبب تلوّث البحر أم لقلّة مناعتها؟

السنوات العشر هي حصيلة ما لم يُنجَز وما لم يُفكّر فيه

تركت تلك اللحظة من الزخم الثوري أثرها إلى حين. دخلت البلاد في نشوة النقاشات؛ أفكار كثيرة كانت طيّ الكتب والأطروحات وأصبحت خبزاً يومياً للتونسيين؛ وأفكار أخرى باتت متداولة فتسمع في الشارع من يحدّثك عن التلاعب الإعلامي والمؤامرات الصغيرة في البرلمان وليّ الأذرع بين المؤسسات الرسمية. بين عشيّة وضحاها تغيّرت الاهتمامات ودرجة الوعي الشعبي وميولات الناس؛ لقد انشرحت صدورهم مع سقوط العصا البوليسية. لكنّ التونسيين سيعرفون لاحقاً أن هناك ما هو أخطر على الحريات من العصا الغليظة: الخوف. 

حامت وقتها سيناريوهات كثيرة في السماء مثل الغربان؛ الثورة المضادة ممكنة كما في اليمن، والحرب الأهلية في ليبيا ليست بعيدة، وتشريد شعب بأكمله أمرٌ قابل للوقوع كما في سورية، والانقلاب العسكري خطر يهدّد كل البناء الديمقراطي، وقد حدث بالفعل في مصر. في الداخل، تبدو الطرق مسدودة بالمشاحنات والمصالح المتضرابة، إفلاس الدولة ليس عبارة مجازية، ثم ألغم التشدّد الديني الفضاء العام، فاختلق معركة انهمك فيها معظم المثقفين. أيّ جهد، أيّ وقت، أيّ مقدّرات يمكن بعد ذلك توظيفها في ترتيب الأحلام الثورية ناهيك عن محاولة تجسيدها؟ 

ثمّ لنتساءل أيّ مساحة تركتها القيم الاستهلاكية ليكون للفنانين والمثقّفين فاعلية؟ وماذا تركت هجمة الفنون الجاهزة من الشرق والغرب لتفسح المجال لمبدع تونسيّ أن يخاطب الناس؟ وقبل ذلك، ماذا ترك نسق الحياة الجنوني وارتفاع الأسعار للمواطن التونسيّ حتى ينفقه على متعته الفنية والفكرية؟

كما يمكن أن نتساءل: هل توجد ثقةٌ أصلاً بين الكتلة العامّة للمجتمع وشريحة المثقفين، وبينهما السياسيون، بما يقدّمونه من وساطة خبيثة؟ لقد ساد خلال هذه السنوات العشر تلاسنٌ متبادل؛ شعبٌ يرفع شعار "نكبتُنا في نُخبتِنا"، ونُخَبٌ لا تجد مفرّاً إلا بمزيد التعالي، وبالتالي الانفصال عن الكتلة الاجتماعيّة. هكذا تهشّمت البوصلة التي كان يمكن أن تشير إلى نقطة ضوء في آخر النفق. ربما كانت الثورة فرصة لترتيب هذه العلاقة، ولكن لا يبدو أن أحداً كان يريد السير في هذا الطريق.

في نهاية 2019، ومع الانتخابات الرئاسية، بدا أن الشعب التونسي قد استعاد شيئاً من روح الثورة مع التفافه حول قيس سعيّد ضد مرشّحي الأحزاب والتمويلات الأجنبية، ضمن رغبة واضحة بتصحيح مسار الثورة. كانت تلك تجربةً في تنشيط الأحلام، غير أن المعادلات السياسية المعقّدة سرعان ما أوقفت تلك الموجة فأتت عليها منذ أن استشعر الناس أن سعيّد مكبّل بتعقيدات الحياة السياسية ودسائسها، ما ضخّ في البلد مزيداً من الإحباط.

هكذا مرّت السنوات العشر؛ هي حصيلة ما لم نُنجزه، وما لم نفكّر فيه، وما لم نتخيّله. قد يبدو الأمرُ محزناً وبلا معنى، ولكنّه وضعٌ يبدو طبيعيّاً إذا علمنا أن الجسد الشعبي محرومٌ من مساهمة عقله. لم تتوفّر للشعب التونسي مسافة فكرية كي يتعامل مع ما بعد الحدث الثوري، لذلك لم يحدث شيء.

المساهمون