البحث عن يوتوبيا

23 اغسطس 2024
"جنة اللذة" للفنّان الهولندي هيرونيموس بوس
+ الخط -
اظهر الملخص
- تتزامن الروايات اليوتوبية والديستوبية في القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث تتناول كلاهما الانفراد بالسلطة والسيطرة على الحياة العامة.
- اليوتوبيا تصوّر عالماً مثالياً منظماً، بينما الديستوبيا تجبر الجميع على تبني نظام واحد دون مراعاة للحرية والرفاه.
- الروايات الديستوبية تبرز البشاعة والظلم، بينما الروايات اليوتوبية نادرة في الأدب العربي بسبب الأوضاع المتردية التي تمنع تحقيق الأحلام حتى في الخيال.

من المصادفات اللافتة، في تاريخ الرواية، خاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين، أن يتزامن صدور روايات ذات توجّه يوتوبي، وأخرى مضادة، ذات توجه ديستوبي. اللافت أن كلا النوعين يكادان يتلاقيان في مركز وحيد هو الانفراد بالسلطة، من جهة، والرغبة في السيطرة على الحياة العامة من حيث التوجيهات.

أمّا اليوتوبيا فإنّها تختلق عالماً وهميّاً جميلاً، إنّها تمثيلٌ للحلم البشري الذي طال كثيراً، ولم يتحقّق في أي وقت، وهي تبني في الغالب ذلك العالم العادل الذي تتخيّله منظّماً أشدَّ التنظيم، تحكمه قوة خيّرة، ولكن لا تسمح بأيّ تجاوزات، وتُعمِّم على البشر شكلاً واحدا للحياة، يمنع، أو يمتنع على التغيير والتنوع.

وفي الديستوبيا أيضاً يُجبَر الجميع على تبنّي شعار واحد، ولغة واحدة، وتصوّرٍ وحيد للحياة، وشكل للحكم لا يتغيّر أيضاً، دون الاهتمام بحياة الناس من حيث الرفاه والحرية.

يشغل البشر عالم الظلم الذي تجسّده رواية الديستوبيا

هل تُكتب الديستوبيا لأنّ العالم عاجز عن الوصول إلى الحلم بمجتمعٍ عادل وحرٍّ وإنساني؟ هل تصف الحال الذي يعيشه الناس، أم تحذر منه؟ ثمّة المئات من الروايات الديستوبيّة التي وصفت البشاعة والتوحّش اللذين ينحدر إليهما طاقم من البشر الذي يمتلكون القوة للحكم: قوة العضلات أو قوة المال أو قوة السلطة.

لا ينشغل الكتّاب العرب بالرواية اليوتوبية؟ الراجح أنَّ التفكير في المستقبل؛ وهو شغل الرواية اليوتوبية الشاغل، ناجم عن الأمل الذي يمكن أن يقدّمه التقدّم في جميع المجالات، أي أنها تُؤمن بإمكانات البشر، وثمّة من قال إنّ اليوتوبيا مُلحدة تقريباً، أي أنّها تُحيل جهد التغيير على البشر وحدهم، وربما كان هذا هو السبب الذي منح رواية لكاتب أميركي اسمه إدوارد بيلامي شعبيّة هائلة في أميركا، ونوقشت في جميع الأوساط، ومن بين المعجبين بها جاك لندن، وإبتون سنكلير، وأطلق عليها مارك توين "أحدث وأفضل الأناجيل". كما أن تشيخوف وغوركي وتولستوي أشادوا بها.

تغلق المجتمعات المتخلّفة، أو المحكومة بالاستبداد الأفق أمام البشر، وبالتالي أمام التعبير الأدبي والفني. وقد يكون هذا الاستنتاج، إذا كان دقيقاً، أحد الأسباب التي تمنع الكاتب العربي من كتابة رواية يوتوبية. فالأمل، والحلم بالتغيير، أو تصوّر  المدينة الفاضلة، كما سميت في التاريخ الأدبي العربي، تبدو خارج المخيّلة الروائية العربية، بسبب تراكم الأسباب التي تمنع هذا الحلم من التحقّق، حتى في الأحلام أو الأوهام. وهو مؤشر، في الوقت نفسه، على رداءة الوضع العربي، الذي لم يسمح، بقوة الطرد الداخلية في تكوينه، حتى اليوم، للأدب أن يُنجز هذه المهمة الخيالية التي يمكن أن تكسر الوضع العاجز بين دفتي كتاب على الأقل.

اللافت أنَّ معظم الأعمال اليوتوبية قد اختفت من التداول، بل إنّ عمل بيلامي، الذي يقول عنه دوريان لينسكي إنه أحد أكثر الكتب المؤثّرة في تاريخ الأدب، غير معروف اليوم، بينما لا تزال البشرية قاطبة، تحتفي بكتاب أورويل "1984".

ومن الصعب أن نقبل نظرية لينسكي نفسه، الذي يقول "إنَّ رواية بيلامي سياسة تتخفّى في هيئة أدبية". والراجح هو أنّ أكثر ما يشغل البشر إنّما هو عالم القهر والظلم والاعتداء على الحرية، الذي تجسّده رواية الديستوبيا.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون