أصبحت جُل مكتبات المثقفين والباحثين العرب، على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية، لا تخلو من سِفر "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" الضخم لعزمي بشارة. ولم يعد النقاش يُثار حول موقع الدين وأنماط التديّن في الحداثة وسِجالات عملية العلمنة، إلا وكان هذا الكتاب هو القاعدة المؤسِّسة لأي نقاش معرفي حول العلمانية وسياقات نشأتها وتشابكها مع الظواهر السياسية والاجتماعية الكبرى المؤسِّسة للعالم الحديث.
وفي ضوء استعصاء الباحثين العرب عن دراسة العلمانية عربيًا، نظرًا لهيمنة نظريات العلمانية الكلاسيكية التي تلفظنا، فقد جاء هذا الكتاب الذي يعيد بناء المعرفة العربية للعلمانية ليكون مجهر الباحث التونسي سهيل الحبيّب في رصد وتفكيك وتحليل مواقف التيار الإسلامي من العلمانية، ذلك أن ما يميز هذا التيار عن غيره أن مقاربته للعلمانية تعكس أبعادًا أبعد من الخطاب والأيديولوجيا، لتحيل نظرته، بشكل أو بآخر، إلى ظواهر قائمة في الواقع الاجتماعي العربي.
وقد صدر كتاب الحبيّب مطلع هذا العام تحت عنوان "الإسلاميون والعلمانية: قراءة جديدة في ضوء نظرية بشارة في العلمنة"، عن "الشبكة العربية للأبحاث والنشر"، ويضم بين جنبيه مقدمة نظرية ثرية وقسمين في أربعة فصول.
يمثّل التمايُز عمادَ مفهوم العلمنة عند عزمي بشارة
يفكك سهيل الحبيّب، في مقدمته النظرية المطولة، كبرى النظريات الكلاسيكية المفسرة للعلمانية، فهذه النظريات تقوم على "تبخيس الإسلام" أولًا، وعلى تمجيد المسيحية ثانيًا، باعتبارها "إمكانًا تحقق من داخل المسيحية وبالتوافق لا بالتصارع والقطيعة معها"، ويقدم لها نقدًا علميًا من داخلها؛ فهي "لا تستطيع أن تعالج ظواهر من قبيل تلك التي يمثلها شطر من التدين الإسلامي المعاصر، إلا في شكل إطلاق أحكام نمطية جوهرانية لا تاريخية تَستثني المسلمين من صيرورات العالم الحديث، وتحديدًا صيرورات العلمنة، وغالبًا ما تكون هذه الأحكام قاعدة للمواقف الأيديولوجية العنصرية ضد المسلمين".
وبهذا، يفسح الحبيّب المجال لأهم مداخلة نظرية عربية، اعتقد أنها عالمية، للعلمانية، وهو النص البِشاري، ونقول البِشاري لأن الفلاسفة الذين أسسوا مناهج ومفاهيم جديدة صيغت تصريفات لغوية من أسمائهم للدلالة على عدتهم المفهومية، مثلا الهيغلي أو الكانطي. واليوم يمكن أن نقول بالمعنى "البِشاريّ" أي من عزمي بشارة؛ إذ أصبح من الضروري صياغة هذا التصريف بعدما أسس بشارة عُدة مفهومية متكاملة في العلوم الاجتماعية، وفي موضعنا هذا تكون العلمانية إحدى هذه المفاهيم.
ولكن ما العلمنة عند بشارة؟ "العلمنة باعتبارها صيرورة تاريخية تمس مجالات اجتماعية متعدّدة، كما تمس الفكر الإنساني، هي عملية التمايز المستمرة بين قطاعات يُعيد التمايز تعريفها، مثل العِلم والأسطورة، والمقدّس والدنيوي والدين والدولة، وغيرها". وقد التقط سهيل الحبيّب مفتاح القول البشاري في العلمنة، وهو "التمايز"، حيث يفترض مفهوم التمايز في المعنى الذي يجريه بشارة وجود عناصر كانت في مرحلة ما مؤتلفة في وحدة عضوية، ثم تمايز بعضها عن بعض في سياق تاريخي صيروري معلوم. التمايز بهذا المعنى، هو عماد مفهوم العلمنة عند بشارة، إلى درجة إمكان القول: "إن العلمنة في كل مكان هي عملية تمايز في مجالات أو نطاقات في إطار العالم".
في الفصل الأول من القسم الأول، "تطور سردية فساد العلمانية ومنطق الانفصال عن التاريخ الدنيوي وتقطيعه"، ينتقل الحبيّب إلى دراسة اللحظات الثلاث الكبرى في مواقف الإسلاميين من العلمانية، وتمثلت الأولى في جمال الدين الأفغاني في "رسالة الرد على الدهريين" باعتبارها عنده فسادًا مطلقًا وشاملًا، وتقوم على قاعدة أن التدافع والصراع في الاجتماع السياسي في التاريخ البشري هو صراع بين العقائد الدينية والعقائد المادية/ الدهرية، كما أن الأفغاني نظر إلى أن حركة تمدن المجتمعات مرتبطة بوجود اعتقاد ديني تستند عليه، ويقرأ الحبيّب هذا الموقف على أنه نقض آلي على التيار العلماني المتصلب في بدايته، والذي نظر إلى العلمانية على أنها أساس التمدن، كما أنه أدلجها، في حالة شبلي شميل. وعلى الرغم من أن الأفغاني كتب رسالته نتيجة ملاحظته لانتشار للفكر الدهري في الهند، إلا أن، الرسالة التي صدرت عام 1879 وعرّبها الشيخ محمد عبده عام 1885، جاءت بعد عام واحد من كتابات شبلي شميل وغيرها في 1884.
اللحظة الثانية كانت في الثلث الثاني من القرن المنصرم، وتمثلت في كتابات مؤسسي "الإخوان المسلمين" حسن البنا وسيّد قطب، حيث كانت المعركة الحقيقية يوم ذاك هي حول تأويل الإسلام ومكانته ومقاصده في السياسة والاجتماع والثقافة والاقتصاد، أي حول نمط تديّن إسلامي مخصوص يجب أن يسود، فعلى الإسلام، بحسب قطب، أن يهيمن على ما بات في المجتمعات المعاصرة من شؤون الدنيا المستقلة بذاتها.
يدرس اللحظات الثلاث الكبرى في مواقف الإسلاميين من العلمانية
أمّا اللحظة الثالثة، وفق الحبيّب، فتتمثل في ما أنتجه عبد الوهاب المسيري في مجلديه "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة"، وقد قدم الحبيّب نقدًا لاذعًا للمسيري الذي قام، حسبه، بوصل العلمانية بأصول فوق تاريخية، فقراءة المسيري للعلمانية تقوم على لعبة تقطيع التاريخ وتجزئته والانتقاء منه، فهو يستشهد بظواهر "مدمّرة ووحشية في التاريخ الإنساني، نشأت في سياقات معلمنة وهي الإمبريالية والعنصرية والصهيونية والنازية والفاشية، فإنه يسكت عن ظواهرها المضادة، أي عن الأفكار والنضالات الميدانية العملية التي تصدت للفاشية والنازية، وانتصرت لحق الشعوب في تقرير مصيرها، وخاضت معارك حقوقية من أجل المساواة بين بني البشر وضد التميز العنصري بمختلف أشكاله".
والمسيري، بحسب سهيل الحبيّب، "إذ يمزق أوصال التاريخ على هذا النحو، فذلك لأنه محكوم من المنطلق بقَبْلية سردية الفساد المطلق والشامل التي تقول إنه في غياب 'المعايير المتجاوزة للإنسان' (المعايير الإلهية)، لا بد من أن تتولّد ظواهر كارثية ومدمّرة، مثل الإمبريالية والفاشية والعنصرية، وهذه القَبْلية لا تفترض مطلقًا وجود ظواهر مضادة في ظل غياب هذه المعايير الإلهية المتجاوزة".
ولكن كيف يمكن قراءة هذه اللحظات الثلاث في ضوء النص البِشاريّ؟ تمكّن سهيل الحبيّب من وضع هذه اللحظات في محورين مركزيين ضمن منجز بشارة؛ وهُما مسألتا الدولة والأخلاق، ففي الأولى تقصى بشارة، بأناة المؤرخ المحقّق والمنظِّر المدقق، عملية بناء الدولة الحديثة على أنها عامل قاعدي شكّل الصيرورة التي أفضت إلى قيام المجتمعات وأشكال وحدتها وانتظاماتها السياسية والاجتماعية، وأنه أبرز الطابع الجدلي الذي يسم صيرورات تحولات التديّن والتعلمن في المجتمعات الحديثة، وفي المقابل نقع على سردية المسيري، وهي أساس هذا الفصل الثاني في عقد المقارنة بين مشروعي بشارة والمسيري، وهي سردية تقوم على فصل جذور الظواهر العلمانية عن التاريخ البشري الدنيوي المحايث من الأصل، ثم على تقطيع هذا التاريخ وتجزئته وانتقاء أجزاء منه وإهمال أُخرى، كما بيّنا أعلاه. وبالتالي رأى الحبيّب، بدقة متناهية، أن أوجه التعارض بينهما تقوم على "تاريخية هذه الدولة الحديثة، أي شروط نشأتها والعوامل التي حفزت بروزها وصيرورة تطورها ومآلاتها في الأزمنة الحديثة والنتائج العملية التي أفرزتها".
أمّا المسألة الثانية، الأخلاق، فإن سردية الإسلاميين تَعتبر الأخلاق، بالمعنى الإيجابي، هي الوجه السالب للعلمانية، أي أن الأخيرة قضت على القيم الأخلاقية عند الأفراد وأزاحتها من مجال العلاقات في ما بينهم، وأن هذه العملية السالبة عند الإسلاميين هي أساس كون العلمانية تمثل فسادًا مطلقًا وشاملًا، وذلك تأسيسًا على أن لا مصدر للأخلاق إلا التعاليم الإلهية الأزلية المتضمنة في النصوص الدينية، في حين ينقض بشارة، في منجزه المعرفي، مقولة التطابق بين الأخلاق والدين ويبيّن كيف أنه لم يتطابق الدين مع الأخلاق تاريخيًا، كما أنه لا ينفيها وإنما يدققها ويجعلها علاقة نسبية لا مطلقة في وجوه عديدة، وأن هذا التمييز بين الدين والأخلاق مفهوميًا وفكّ الاقتران المطلق بينهما هو الخطوة الأولى لمسار فهم ظواهر العلمنة الأخلاقية في المجتمعات الحديثة.
بعد أن سعى الحبيّب في الفصلين السابقين إلى معالجة وتتبع سردية فساد العلمانية المطلق، ينتقل في القسم الثاني المتضمن للفصل الثالث والرابع إلى معالجة السردية الثانية حول العلمانية في خطابات الإسلاميين على أنها خصوصية مسيحية، ويتتبع جذور أصل هذا الخطاب ومنشأه وسياقه التاريخي الذي ظهر فيه مع بداية سبعينيات القرن العشرين، وكيف تحول من صراع حول إظهار خصوصية الإسلام عن باقي الديانات، إلى شق آخر، عند نموذجه "الأنضج" مع الشيخ يوسف القرضاوي على أن العلمانية مستوردة، وعلى بدء التعريف بالعلمانية بدل التعريف بالإسلام كما في حالة الشيخ محمد عبده، وهو ما اعتبره الحبيّب عنوانًا لنمط جديد من التديّن الإسلامي. وبهذا ينتقل في فصله الأخير من وضع تلك الخطابات، التي اعتبرت العلمانية خصوصية مسيحية، في ضوء المداخلة النظرية الاستثنائية لعزمي بشارة، والتي اعتبرت العلمنة من حيث هي صيرورة تمايز، خصوصية تاريخية، لا حضارية.
في خاتمة عمله الحفري، يضع الحبيّب كل تلك الخطابات على محك الواقع ويسائلها عن جدواها ونضوجها في ضوء الثورات العربية التي انطلقت عام 2011، ليستنتج أن صراع الإسلامي الهوياتي مع البديل العلماني الحديث "لا يطابق المحاور الحقيقية التي تدور عليها قضايا التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي نادى، ولا يزال ينادي، بها أوسع الجماهير في مختلف البلدان العربية".
أبان سهيل الحبيّب في كتابه "الإسلاميون والعلمانية: قراءة جديدة في ضوء نظرية بشارة في العلمنة" عن مكامن وسياقات خطاب الإسلاميين إزاء العلمانية ودوراته المختلفة ومراحل هدنه في ضوء الاستنتاجات النظرية والخطوات المنهجية التي بناها عزمي بشارة في سِفره "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"، وأظهر كيف بالإمكان الاستعانة بالدرس البِشاريّ المعرفي في وضع بردايم لمشروعاتنا الفكرية العربية بأدوات عربية، لا نظريات "علمية" تلفظنا كلما اقتربنا منها.
* باحث من فلسطين