أكّدت دراسةٌ، صدرت مؤخّراً، أنّ الطبيعة غابت تدريجيّاً عن فضاءات المُدن، كما عن نصوص الأدب ومدارات الخيال ضمن المشهد الثقافي الفرنسي، فلم تعُد ذلك المكوّن الرئيسي الذي طالما ألهم الكتّاب وقام عليه تيار أدبيّ بأكمله: الرومانسية، ولا ذلك الملاذ الأدبيّ الذي يفرّ إليه البائسون من فظاعات المجتمع والسياسة.
وبحسب هذه الدراسة، تقلَّص وجودُ الطبيعة باعتبارها إطاراً مكانيّاً من دائرة وعي الفرنسيّين بنسبة خمسة عشر في المئة، كما انحسرت من مجال الرؤية، بعد أن حلّت محلّها البناءات الكثيفة والعمارات الشاهقة التي باتت تُغطّي أشعة الشمس وتحجب خضرة الأراضي.
ومعلومٌ أنّ هذا الغياب كان بفعل الهجمة الحضرية والجشع الرأسمالي الذي وضع الربح المادّي في أعلى أولوياته، على حساب المساحات الخضراء التي هي رئة الكوكب ومدار النفَس والجمال فيه. ومن نتائج هذا الغياب، اختُصر محور "الطبيعة" في مفهوم "الإيكولوجيا" الغامض الذي يُحيل على البيئة بما شهدته من متغيّرات مناخية سلبية، وتعالت الأصوات الداعية لضرورة الحفاظ عليها، إلّا أنّ غموض المفهوم أسهم في تقليص الوعي المباشر بالطبيعة ومحاسنها.
يتجاهل مناصرو البيئة تدمير الاحتلال لطبيعة فلسطين
ويقابل هذا الانحسار التدريجي لمفهوم الطبيعة في الوعي الفرنسي، جرّاء اختيارات الدولة السياسية والعمرانية، إعدامٌ مقصود لها في فلسطين عبر التدمير المنهجي لحقول زياتينها وتينها وبرتقالها وما تبقّى فيها من اخضرار؛ فقد لحقها تخريب مستمرّ أضرّ بالمزارعين وبما غرسوه من مشاتل في دفيئاتهم الضنينة، ولم يبق من امتداد الطبيعة إلّا مساحات محدودة، ضيّقها الاستيطان المستمرّ منذ عقود، أمام صمت عالمي، حتى تركّزت في مساحة قطاع غزّة، التي لا تتجاوز 365 كيلومتراً مربّعاً، كثافة سكّانية عالية جدّاً تتجاوز مليوني نسمة، وهو ما يشكّل جريمة موصوفة ضدّ الطبيعة التي عانت مرّتَيْن: الأُولى ظلم الاستيطان الذي فجّر هذه الكثافة، والثانية بسبب الدمار الذي ألحقه الاحتلال بما نشأ من مبانٍ بسبب تلك الكثافة.
ومن جديد، تكشف هذه المقارنة السريعة المركزيةَ الأوروبية، إذ يُنظَر إلى انحسار الطبيعة في الفضاء الفرنسي على أنه "قلق في الحضارة"، يُؤلم الضمير الفرداني ويزعجه مع أنه من تبعات توحّش الاستعمار الأوروبي وتغوُّل الرأسمالية طيلة القرون السابقة، وقد تفنَّنّا في تدمير مقدّرات الطبيعة لإرضاء وهْم القوّة الصناعية والجبروت الحربي اللامحدود، في حين يبدو انحسار الطبيعة داخل الفضاء الفلسطيني نتيجة لاحتلال لا يُميّز بين البشر والشجر والمدر، يأتي بآلاته العسكريّة على الأخضر واليابس، من دون أن يأبه الضمير الأوروبي لهذا التدمير، لا لأنّه لا يحبّ الطبيعة عموماً، بل لأنّ هذا التدمير يطاول طبيعة فلسطين خصوصاً، ويمسّ الفرد الفلسطيني تحديداً، الذي تعتبره هذه المركزية الأوروبيّة كائناً خارج التاريخ.
وتبعاً لذلك، تَعتبر هذه المركزيةُ أرضَ فلسطين مساحة خارجة عن الاهتمام الإيكولوجي والانشغال بالبيئة، مع أنّها تتبجّح بالدفاع عن البيئة حتى وصلت في تقديس عناصرها إلى حدّ السخافة والغلوّ، كصرف آلاف الدولارات من أجل قطط أو أسماك ليست حتى من الفصائل النادرة، في حين لا يرفّ لها جفن حين تنزل على الحقول والحيوان والبشر آلاف القنابل فتدكّ الأرض دكّاً، ولا يكون لها صدى في ضمير دُعاة المحافظة على الكوكب الملتزمين بقضايا البيئة وأنواع الحياة فيها.
واللافت في الأمر أنّ الأحزاب "الخُضر" التي تُدافع عن الطبيعة في أرجاء القارّة الأوروبية، تتجاهل تماماً ما يُرتكب من تدمير بحقّ طبيعة فلسطين، كأنّها ليست من هذا الكوكب وكأنّ برتقالها (وتينها وزيتونها أيضاً) "ليس أجمل برتقال على حوض البحر الأبيض"، و"ليس شاطئها أشدّ زُرقة من شواطئ المدن العربية"، كما قال محمود درويش في نصّه "صمتٌ من أجل غزّة".
هذا الصمت الذي لم تُمزّقه سوى أصوات الجرّافات الهادرة والدبّابات الجائرة، التي تسحق بعجلاتها أزاهير الحقول والدروب ومعها يافعَ الأشجار والنبات، وحتى البهائم وأليف الحيوانات لم تسلم من هَوَج التشفّي وعبث الانتقام.
جريمة مزدوجة: استيطان الأرض وإبادة ما يتبقّى منها
الصوت الوحيد الذي أدان إبادة أراضي غزّة وشجرها كان للطفلة غريتا تنبيرغ، ولم يبطئ الردّ الاسرائيلي في خنقه وحذف كلّ إشارة إليها من برامج التعليم عقاباً وتشفّياً. وما هذا الصوت إلّا استثناء يؤكّد القاعدة ولا ينفيها.
ولعلّ أول ضحايا هذا الغياب المتسارع لصورة الطبيعة، أكان ذلك في فرنسا أو في فلسطين، هُم الأطفال الذين لم تعُد الطبيعة تحيط بأقطار وعيهم ولا مصدر إلهام لهُم أو موضوع محفوظات سنواتهم الأُولى، كما تلاشت معها حقول دلالية كاملة مثل أسماء الوحيش والنبيت والحيوانات الأليفة وأصواتها هديلاً وهديراً، بعد أن زالت من مخيّلاتهم البريئة.
وفي الغرب، استعاضوا عن هذا الغياب بالألعاب الرقميّة وأضوائها الاصطناعية وموسيقاها الصاخبة، ولا شكّ في أنّ الرفاه المادّي الذي تعرفه مجتمعاتهم يعوّض نوعاً ما جمال الطبيعة. وأمّا الطفل الفلسطيني فلا بواكي له، ولا تعويض له عن خسارته سوى بالركام اللامتناهي الذي تتّصل أكوامه على مدّ بصره التائه.
المنطق نفسه ينسحب هنا: الطفل الفلسطيني لا تعدل براءتُه نظيرَه الفرنسيّ. يُلام قادة فرنسا على تقليص البُعد الطبيعي والبيئي في مسار التربية والملام مشروع، ولا ينظر إلى تجريف الأراضي الفلسطينية أمام أنظار الأطفال الذين يلعبون فوق حطام البنايات التي سبق لها، حين كانت قائمة، أن حجبت خضرة مروج غزّة الغنّاء فتحوّلت إلى مربّعات سكنيّة كثيفة ضاغطة لا تترك للمرح مجالاً ولا للعين أن تسرح في امتداد.
ولئن انحاز العالم ضدّ شعب فلسطين، فلن يُمكنه الانحياز ضدّ طبيعتها البريئة. فهل سيَرميها أيضاً بـ"الإرهاب"، لأنّها هي مَن ألهمت الشعراء وأعطت النضال معناه العميق. يدافع الأهالي عن أرضهم، أي عن الطبيعة في براءتها والتراب في أوليته وبساطته عنصراً، قبل أن تضفي المجموعات المتناحرة عليها أيّة دلالة سياسية بَعديّة. من حقّهم أن يناضلوا من أجل زرقة البحر وخُضرة الروابي وأهازيج الفلّاحين، التي طالما ترنّموا بها وهُم يجنون حَبَّ الزيتون الناصع. ها هي الطبيعة تُحاصَر الآن، كما حوصرت في مدن فرنسا، حطّموها حتى "صارت المدينة مقبرةً، وفقط مقبرةٌ تشبه تشوّهاً في عين المجرّة أو ثقباً في قلب العالَم تنتظر أن يلتمّ شملُ الياسمين والعصافير والأغاني قبل أن تفرد جناحيها الهائلين"، كما تغنّى نضال برقان.
قد يبدو البكاء على الطبيعة مُهيناً بعد ارتقاء سبعة وعشرين ألف شهيد. نحن لا نفصل بين الأرض وشعبها ولا بين حَبّ الرمل وزرقة السماء وحُلم الأطفال، كما لا نميّز بين قَتْل يطاول البشر أو تجريف يقلع شجر الزيتون. كلّها كائنات حيّة تتساوى حُرمتها وجماليّتها، بل إنّ ما أحاق بالطبيعة يفوق أحياناً ما أصاب الإنسان، ولن تفلح الحرب الفظيعة في خنق نداء أمّنا الأرض ولا في قتل بناتها من ورد وبرتقال.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس