ليست الدّراسات التي تناولت المصير المورسكيَّ (الأندلسي) خارج الحدود الإسبانيَّة، بعد العام 1609، بالقليلة. وعلى ضوء عددٍ منها، بات من نافل القول إنّ المورسكيّين المطرودين من إسبانيا ظلّوا على حالهم بمجرَّد عبورهم الحدود، أي أنّهم ــ وهم الذين بلغ عددهم ثلاثمئة ألف، وفقاً للرقم الذي يطرحه معظم الباحثين ــ لم يذوبوا في البحر أو يُقاسوا العناء، لكنَّ واقع الحال يقول إنَّهم عانوا سلسلةً من التحوّلات بعد أن استقرُّوا في عدد من المناطق المتفرِّقة جغرافياً؛ بدءاً من شمالي أفريقيا، مروراً بمصرَ وتركيا، وانتهاءً بأوروبا: فرنسا وغيرها.
عموماً، يُرجع المؤرِّخون معظم الدراسات العلميَّة التي تناولت طرد "المورسكيّين" (الأندلسيين بالتسمية الشائعة في إسبانيا والغرب) إلى خمسينيَّات القرن الماضي، مُعيدين هذا الاهتمام إلى عمليَّة الطرد في حدِّ ذاتها، وإلى الأثر الذي تركه المورسكيُّون وأحفادُهم في المجتمعات الإسلاميَّة التي استقرُّوا فيها. ضمن هذا السياق، أُدرجت، للمرَّة الأولى، فصول عن عمليَّة النفي المورسكيّ في كُتُب كارو باروخا، ودومينغز أورتيز وغيرهما من المؤرِّخين الكلاسيكيّين، الذين حلَّلوا فيها التطوّر التاريخيّ والاجتماعيّ والثقافيّ في فترة الطرد وبعدها. وعلى الرّغم من كثرة هذه الدراسات في العقدين الأخيرين، إلّا أنّنا، بالنظر عميقاً إليها، نرى أنّ أغلبها قد ركّز، منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، على مصير المورسكيين في الدول الإسلاميّة، والقليل من الدراسات فقط، إن لم نقل النادر منها، تناول مصيرهم ومنفاهم في دول الغرب ــ علماً أنّ عدداً لا بأس به منهم قرّر الرحيل إلى دول مسيحيّة كإيطاليا وفرنسا والبرتغال، تمثيلاً لا حصراً.
ضمن هذه الدراسات القليلة والنادرة، يمكن إدراج سلسلة المحاضرات التي ينظّمها "معهد سرفانتس" في الرباط، تحت عنوان "المورسكيُّون"، والتي اقترحها وأشرف على تنظيمها وموضوعاتها المتخصّص في الدراسات الإسبانيَّة، الباحث حسين بوزينب. وقد دعا بوزينب، قبل أيّام، الباحثَ الفرنسيّ والمتخصّص في الدراسات الإسبانيَّة في "المركز الوطنيِّ للأبحاث العلميَّة"، برنار فانسان، لإلقاء محاضرة تحت عنوان "منفى المورسكيين في فرنسا"، سلّط فيها الضوء على أولئك المورسكيين الذين وجدوا أنفسهم مجبرين، بنحو أو آخر، على التوجُّه إلى البلدان المسيحيَّة في الفترة الممتدَّة ما بين 1609 و1614.
فُرض على بعض الأندلسيين الرحيل إلى بلدان مسيحية حصراً
سرعان ما يغوص فانسان في خبايا الموضوع، كاشفاً مجموعة من الحقائق التاريخيّة التي أحاطت بعمليّة طرد المورسكيين من الأراضي الإسبانيّة، التي حدثت على دفعات، بداية من بلنسية في العام 1602، وما تلاها في الأعوام اللاحقة. غير أنّ جديد فانسان هو أنّ مسؤولي السلطات الإسبانيّة ــ ولا سيّما الملك فيليبي الثالث ومستشاريه ــ قرّروا في مرحلة ما، في أثناء عمليّات الطرد، إجبار المورسكيين المتبقّين على طول الأراضي الإسبانيَّة وعرضها؛ ولا سيّما في أقاليم الأندلس وكاستيا لا منشا، وأراغون وكتالونيا، على أنّهم إذا أرادوا أن يأخذوا أولادهم وأُسَرهم معهم، فعليهم أن يغادروا إلى بلدٍ مسيحيّ. بطبيعة الحال، نظراً لقرب المسافة، وجد آلاف المورسكيين أنفسهم مضطرّين إلى عبور جبال البيرينيه وصولاً إلى الأراضي الفرنسيّة، في حين قام غيرهم، ولا سيّما أولئك الذين طُردوا من إقليمَي أراغون وكتالونيا، بالسفر بحراً، وصولاً إلى موانئ مرسيليا وغيرها من المدن الساحليّة، بعد رحلة مؤلمة للغاية.
إنَّنا في عهد إنريكي الرابع، الذي أعطى الأمر بفتح الحدود أمام المورسكيين القادمين من إسبانيا واستقبالهم، لكنّ هذا الأمر لم يدُم أكثر من شهرين، فقد أصدر قراراً جديداً بإغلاق الحدود ومنع استقبال أيِّ مورسكيّ قادم، برّاً أو بحراً. ليس هذا فحسب، بل بدأت حملة ابتزاز ممنهجة من قبل السلطات الفرنسيّة لترحيل أولئك الذين دخلوا بادئ الأمر إلى أراضٍ مسلمة. بدأت المفاوضات في البلاط الفرنسيّ، وانتهى الأمر إلى قرارٍ بعدم إيواء المنفيين الجدد من إسبانيا، وترحيل بعض المورسكيين الموجودين في فرنسا إلى المغرب وغيره من الدول. أمَّا عن مناطق انتشار المورسكيين في فرنسا، فيتحدّث فانسان، بشكل أساسيّ، عن الموانئ الساحليّة (مرسيليا وتولون)، كما يشير إلى أمر في غاية الأهميّة، وهو أنّ بعض النبلاء الفرنسيين استقبلوا المورسكيين استقبالاً حسناً، وسلّموهم أراضيهم الزراعيّة كي يعملوا فيها، نظراً لخبرة هؤلاء في الزراعة.
ويشير الباحث الفرنسيّ، بين مجموعة من الأمور، إلى صعوبة تحديد عدد المورسكيين الذين ظلّوا في فرنسا، نظراً لعدم وجود مصادر تاريخيّة. إذ إنَّ آخر الأخبار والوثائق الموجودة عنهم تعود إلى عام 1670، ومن هنا تأتي صعوبة البحث التاريخيّ عن أخبار آخر المورسكيين في فرنسا. ذلك أنّ قسماً كبيراً منهم اضطرّ إلى تغيير نسبته، خوفاً من التعرُّض للملاحقة، وهو ما يصعِّب مهمّة تعقُّب أخبارهم إثر تبنّيهم أسماء وألقاباً فرنسيّة. ويذكر لنا فانسان أسماء بعض أُسَر المورسكيين الأوائل الذين دخلوا فرنسا واستقرّوا فيها بدءاً من العام 1603، وأصبح لهم نفوذ قويّ في البلاط الفرنسيّ، كما أنّهم تدخّلوا في مفاوضات أزمة العام 1609، بشأن ترحيل بعض الموجودين منهم إلى هولندا والمغرب ودول الجوار، ناهيك عن دورهم البارز في التجارة عبر البحر المتوسّط، مثل أسرتَي زباتاس ولوبيز، وتحديداً ألفونسو لوبيز، الذي كان له تأثير بارز في البلاط الفرنسيّ، وذلك بسبب علاقاته التجاريّة مع مجموعة من اليهود النافذين في مرسيليا.
كثرٌ منهم سيغادرون فرنسا إلى بلدان مثل المغرب والجزائر
فانسان لا يتردَّد في الحديث عن خيبة أمل كبيرة شعر بها المورسكيّون حين وصولهم إلى فرنسا، ولا سيّما أنّهم توقّعوا أنّ في إمكانهم ممارسة حياتهم على نحو طبيعيّ. لكنّ حقيقة الأمر تقول إنّهم تعرّضوا لابتزاز كبير، ووجد الكثير منهم نفسه مضطرّاً إلى اعتناق المسيحيّة علَناً، لكنَّهم سرّاً ظلَّوا محافظين على دينهم الإسلاميّ. والنتيجة أنّ كثيرين منهم، بعد مرور فترة من الوقت، غادروا فرنسا إلى بلدان أخرى، مثل المغرب وتركيا أو الجزائر، وسرعان ما عادوا ليُعلنوا إسلامهم. يترك فانسان باب التاريخ مفتوحاً على مصراعيه، مشيراً إلى أنّ الكثير ما يزال مخفيّاً حول منفى المورسكيين في فرنسا، ومؤكّداً أنّ الإنسانيّة تُحتِّم على كلّ باحث تاريخيّ متخصّص بالأمر أن يُشمِّر عن ذراعيه ويستعدّ لنفض الغبار المتراكم على الكتب حولهم. لكنّه يبدي شكّه في أن يحيط ذلك، رغم أهمّية القيام به، بالتراجيديا الإنسانيّة التي لحقت بهم، وما عرفوه من طرد ومحاكم تفتيش.
* كاتب ومترجم سوري مقيم في إسبانيا