يمكن أن يكون كتاب بول هازار "أزمة الضمير الأوروبي" أوّل الكتب التي واجهت الثقافة العربية بعد الاستقلال في تقديم الأزمة كتوصيف مناسب لمسائل الفكر في انغلاقها أوعجزها عن تفسير الواقع. وكلمة "الضمير" هنا غامضة، وإن كانت تعني، بحسب قراءة المؤلّف، الفكرَ الأوروبيّ في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ولم تفسّر كلمة "الوعي" ــ في الترجمة الجديدة للكتاب نفسه ــ المفردةَ، حين صار عنوانه "أزمة الوعي الأوروبي"، بينما ظلّت "الأزمة" هي الهُويّة التي ترافق العنوان.
وبغضّ النظر عن تاريخ استخدام الكلمة في الثقافة العربية، فإنها تكاد تصبح المفردة شبه الوحيدة للتعبير عن الوضع العربي، وهي ترافق التاريخ العربي الحديث والمعاصر في أيّة جولة يمكن أن يتحرّك فيها القارئ. فكتبَ غالي شكري عن "سلامة موسى وأزمة الضمير العربي"، ثم عاد إلى موضوع الأزمة في كتابه "أزمة الجنس في القصة العربية"، وفي الكتابين تزداد المفردة غموضاً، بينما لا يظهر في كتابه عن سلامة موسى ما هي العلاقة بين مؤلّفاته وبين أزمة الضمير العربي. وفي وقتٍ لاحقٍ عُقدت ندوة الكويت الشهيرة بعنوان "أزمة التطوّر الحضاري في الوطن العربي" عام 1974، وتبِعَها، بعد بضعة أشهر، كتاب مهدي عامل الذي ناقش فيه أبحاث الندوة، تحت عنوان "أزمة التطوّر الحضاري أم أزمة البرجوازيات العربية؟"، ولكنّ المفكر الراحل لم يناقش المشاركين في وجود الأزمة أم لا، بل في مضمون واتّجاه السَّهْم داخل أبحاثهم.
نعيش نمطاً واحداً من المشكلات منذ بداية القرن الماضي
وسارع المؤرّخ اللبناني كمال ديب لتأليف كتاب يسجّل فيه ما يحدث في سورية بعد العام 2011، ينفي فيه الثورة، ويستبدلها بمفردة "الأزمة" هكذا: "أزمة في سورية"، بخطٍّ كبير واضح، مع عنوان فرعي مكتوب بخطّ صغير ــ يشير إلى هامشيّته ــ هو "انفجار الداخل وعودة الصراع الدولي، 2011 ـ 2013". ولا يُعفي اليسار نفسه من القول بأبدية الأزمة أيضاً، فيكتب مؤلّفا "معجم الماركسية النقدي" في مقدّمة الترجمة العربية، أنه يصدر في ظلّ الأزمة التي يُعاني منها العالم العربي الإسلامي، دون أن يوضحا ما هي الأزمة، أو أين نجدها.
ثمّة مشكلة في وجود الأزمة، غير أنّها حين تصبح هوية لمجتمع، أو لمجتمعات عربية تتوزّع على مساحة جغرافية هائلة، فإنها تصبح أفقاً مسدوداً. ما يُخشى منه أن المفردة باتت تُستخدم على نطاق واسع، لا من أجل التوضيح، بل من أجل طمْس الحقائق، أو وضْع القارئ أمام لغز الواقع غير المفهوم.
هذا في الجغرافيا. ولكنّ التاريخ يقول إن عُمْر الأزمة، أو الأزمات في هذه البيئة، يغمر القرن العشرين كلّه، ويتغلغل أيضاً في القرن الحادي والعشرين.
والمتأمّل للكلمة وتعريفاتها سوف يفهم من هذا التكرار أن الوضع العربي يعيش نمطاً واحداً من المشكلات منذ بداية القرن الماضي حتى يومنا. هذا هو التشخيص الذي يكاد يتّفق عليه كلُّ مَن قارب موضوع التطوّر ومَلاحقه في حالنا العربي. بينما يختلف الجميع في أسباب العلّة، وفي كتابةِ وصفة العلاج.