الأرض وعرة والحبال زلقة

29 يونيو 2023
جزء من لوحة لـ إبراهيم هزيمة/ فلسطين
+ الخط -

كلّ يوم أكاد أكتب أنّي خسرتُك، ضيّعتُك من يدي، بلغةِ من فقد آخِر البشر، وعرف أوّل النشأة.

لكنّك في نهاية الأمر، كنت ككلّ شيء من حولي، حتى لأتخيّلك انعكاساً لشيء داخلي، صورةً لبواطني المتكدّرة، إذ أتممتِ أخيراً رحلتك نحو الضياع والتبدّد في العدم.

لقطة من الجنّة معلّقةٌ على جبهتي، أطاردها فوق أرض وعرة، وأشدّها بحبال زَلِقة، ثم أقع فتنكسر، ويبقى حطام زجاجها في رأسي إلى الأبد، لكن لا أتعلّم من وخزاته ألّا ألاحِق أيّ صورة تالية.

الأرض وعرة، والحبال زلقة.
فلا تعِدوني بشيء.


■ ■ ■


ألم ما يصيب الأمّهات أن يتذكّرن أبناءهن صغاراً بريئين، إذا تألّموا كباراً لا ترى الأم سوى طفل صغير لم يذنب، مريضاً على سريره لا مبرّر لمصابه ولا عدل في عذابه.

لستُ حريّاً بحنانك بعد يا أُمي، لست ابنك المصاب بالسحايا وينفخ في وجهك ليعديك، أعرف المرض وعدواه الآن، وأعرف الذنوب وأقترفها، لكلّ ما يصيبني ألف مبرّر، كلّ ما يؤلمني مستحَقّ، فنامي قريرة العين، وانسي شكواي فهي لغط، نامي ولا تبحثي لي عن حلّ أو تمدّي لي كفّاً.

أعرف أن التخلّي صعب، وأعلم أنك لن تقبلي إلّا صوري الأُولى، لكن كيف تذكرين شيئاً نسيتُه أنا؟ كيف تريدينني أن أحمل روحاً طارت من يدَيّ؟


■ ■ ■


أوّل مرّة غادرت فيها الخليل بمفردي، كانت إلى أريحا، الرحلة التي انتظرنا من أجلها بلوغ الصف الخامس بنفاد صبر.

مع أول لحظة خارج المدينة، ومع كلّ صوت لا يتحدّث لهجتنا، كنت أحسّ بالخوف، وقبل حتى أن تبدأ الرحلة تمنّيت أن يمرّ النهار بأسرع ما يكون وأعود إلى البيت.

زاد الأمر عليّ أن سُرقَت - وأنا أسبح - ساعتي الجديدة، ثم أوقعتُ كلّ مصروفي في ماء الصرف حين أمسكت البنطال بالعكس.

كان كلُّ أصحابي يتقافزون ويصيحون، وأنا منطوٍ على نفسي أسأل كلَّ خمس دقائق عن الوقت، وكم بقي لنعود إلى الخليل. 

حين عدنا، كانت أمّي تنتظرني على باب الممرّ، وأنا أصعد التلّة بأسرع ما يكون، وكلّ ما في رأسي أن أرتمي في أحضانها وأبكي إلى ما لا نهاية.

لكنّي في آخر لحظة تراجعت، وأخفيتُ ما حدث وكتمت كلّ شيء أحسسته.

من ساعتها يتراكم خوفي واغتراباتي عليّ، وأنا أكابر.


■ ■ ■


أعامِل نفسي - ابتداءً - كذات أُخرى منفصلة عنّي، لكلّ واحد منّا أساس فكري يتباين تفصيلياً عن الآخر.

ثمّ بعد ذلك أعاملها كطفل مدلَّل، صعب الإرضاء والتفاهم.

أنا الطاغيةُ الآن هي في الحقيقة الدخيلة أو لنقل المستجدّة، أو البادئة بالتباين والانشقاق عن الأُولى، لكنّها استطاعت أن تطغى وتسود، ليس لأنّها الأجدر ولا لأنّها أقوى من أختها، بل لظروف خارجية، ببساطة لمتطلّبات الطريق التي تسير فيها، هذي الظروف هي في الأساس من أنبتها، أو الأصحّ شدّها من طرف الذات المتوحّدة الأُولى.

أمّا المضمَرة الداخلية، رغم أقدميتها، رغم تقاربها من الأساس وتشبّثها بالأصل الذي هو في الحقيقة شرط التميز والاختلاف، فهي اليوم مِزَق مشوهة، لا سُلطة لها على شيء سوى كما يفعل الأطفال، بالصراخ والعويل والإزعاج والنورنة، لذا تُعامَل كالطفل.

لكن مع أوّل اتصال إنساني، تنكمش وتغيب كما تنفر البكتيريا من الضوء، من هنا تتحدّث الآن أنا الطاغية عن نفسي التي تُعامَل كالطفل.

في يومياتي تتحدّث غالباً نفسي المنكمشة، تقول رأيها بصارحة، تمارس لعبتها بالصراخ والنورنة.

والآن كالأُمّ التي تفقد أعصابها وتنهار، أريد أن أشدّ شعري وأصرخ وأصيح وألعن السما وما تحتها حتى تنبخع نفسي وتخرس، فأنام.


■ ■ ■


في كلّ قصيدة أو أغنية تحمل المأساةَ على جمعٍ تلميحة لمواساةٍ خفية، وحزنٌ - بعد كلّ شيء - لذيذ.

محروم فقط هو من لا يجد من يبكي - ليس شرطاً لبكائه - على الأقلّ من يبكي معه، ولْتتلوَّن بعد ذلك الأسباب "كما شاءت وشاء لها الهوى".


* كاتب فلسطيني من مواليد 1995

المساهمون