حكاية هذا الاسم تُوازي أسطورة البشر الذين عرفنا آلامهم عن قُرب، قبل أن ترى أعيننا الضوء. وعرفنا أنَّ هذه البقعة من العالَم، التي تقع على البحر الأبيض المتوسط، قد تمَّت سرقتها من أصحابها وضح الظهيرة، ولم نعد نستطيع السفر إلى تلك البلاد، فزُرناها في القصص والروايات والأفلام. دخلنا أزقّتها ورأينا ناسها وأطفالها الذين يُشبهون كائنات الأساطير. وتلك المشيئة النادرة لحبِّ الحياة لا يُوازيها شيءٌ آخر سوى الانتظار. انتظار الحلم أن يصير مكاناً على أرض الواقع، بعد أن طالت إقامته في الكلمات. وفكرة العودة إلى بداهة أن يكون لك بيت وشارع وذكريات.
عشنا معهم في المخيّمات والمُدن التي سكنوها بعد النكبة، أجيالٌ جديدة ولدت خارج حدودها. والذي لم يُغادر بقي هُناك يقلّع شوكه بيديه. بقينا نراها على التلفزيون الرسمي مثل حصان طروادة، امتطته الأنظمة العربية واستدرجت المواطن العربي طيلة عقود طويلة إلى المنطقة العاطفية التي يضعف أمامها وتجعله قليل الحيلة، لأنّها كلّ شيء، ولأنَّ الهزيمة طعمها مرّ. الخطابات الرنّانة على الشرفات وأمواج الجماهير تحتها تصفّق وتهتف وتبكي وتصرخ ستتبخّر في الهواء، لأن البداهة، بداهة الأشياء كانت أقوى، وحلم اليقظة ما هو إلّا كابوس عبرت فوقه طائرة "إف 16" وقصفته.
لعقودٍ طويلة ونحن نكبر ونعيش ونُشاهد ماكينة العنف هذه. ما تعيشه غزّة الآن، عاشته مدنٌ سورية. وسيتداخل المعنى كلّه. وبصورة غير متوقّعة ستظهرُ لصورِ دمارِ الأبنية والشوارع والمستشفيات صورٌ شبيهةٌ في مدنٍ عربية أيضاً، وكأنّها من صُنعِ يدِ مجرمٍ واحد. ومرّة أُخرى ما الذي تريده السلطة المُطلقة من هذا المكان؟ وكيف ينام الطغاة؟ فبدلَ أن يسبح الأطفال على ضفاف الأنهار، يغرقون في الدم، وليس من مخرج للضمير الآن. فما رأيناه من ردّة فعل الحكومات الغربية وحتى العربية يندى له الجبين، بينما المدن في أنحاء العالم تغرق بالمظاهرات. كلُّ هذه اللهفة الإنسانية ربما تدفعنا إلى تعزيز الآمال، بأن القلب البشري يخرج من الظلمة، والتعاطف ليس خدعة أو لافتة أو وسيلة لتخفيف الألم.
مجتمعات مُقيّدة اليدين والقدمين ورهينة صُدف تاريخية
الأرض الجميلة التي كان يكتب عنها غسان كنفاني ويحلم بها ويُراسلها ويلوّح لها من بعيد، بينما اللّهب يحجب أشجار الزيتون والسطوح العالية في حزيران، وهو يعرف تماماً أنَّ الحديث مع الأشباح كان أسهل بكثير من الحوار مع هذا الآخر الذي تمّ جلبه من أوروبا، ومن أنحاء العالم، باعتباره حواراً بين السكّين والرقبة، في سياق ردّه على الصحافي الأسترالي ريتشارد كارلتون. ودائماً سعى الإعلام الغربي لسهولة التوصيف وقدرته على الخداع، نعتَ الصراع الأزلي هذا، بكونه "حرباً أهلية"، بينما الحقيقة هي غير ذلك. ما الذي بقي من كلّ هذا الحلم؟ ومن الأمكنة التي قرأناها في دواوين الشعراء؟ هل هو كابوس آخر يضاف إلى درب الآلام الذي لا ينتهي؟
سؤال غزة هو سؤال المدينة العربية وما آلت إليه خلال مئة سنة، تحديداً بعد فترة الاستقلال وانتهاء الفترة الاستعمارية. سنعرف أنَّ التدمير المنهجي حدَث على مراحل مديدة. أيضاً حالة الاضطراب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي كانت سمة دائمة، متموضعة بين مطارق وسنادين كثيرة. أضف إلى ذلك أنّه لم يتسنَّ لها أن تكون بعيدة عن منظومات الفساد والقبضة الأمنية والأوهام والشعارات الطنّانة التي أغرقت كلّ شيء (منها شعارات تحرير فلسطين والحروب الخاسرة)، ولتتعثّر أيّة فكرة لها علاقة بالأساسيات التقنية التي يقوم عليها مفهوم الدولة، فليس هنالك أيّة استراتيجيات أو حتّى رؤى بسيطة لما ستؤول إليه الأمور.
متى كانت مدننا بعيدة عن منظومات الفساد والقبضة الأمنية؟
من هنا بدت المجتمعات مُقيّدة اليدين والقدمين. وكلّ شيء سيكون محطّ شكّ عارم ومرهون بصُدفة تاريخية قد تُعيد الأشياء إلى نصابها. نحن الآن أمام مُفترق حاسم وخطير للغاية، والذي يُؤخذ في حسبانه، إن صح التعبير، منظر الحبل حول العنق للأسف. والمستقبل يبدو شديد السواد. وحتى الحجارة هناك تكاد تلفظ نفَسها الأخير. ويبدو أنَّ قتل الأطفال وتدمير البيوت فوق رؤوس أصحابها هما مهنة المُجرمين. فكلُّ هذا الحزن والشعور بالخزي لن تشفيه عملية مُداهمة، ولو بسيطة، للضمير الذي سيبقى مظلّة الأحياء والشهود على المذبحة التي تُصوّرها الكاميرات. من كان يُصدّق أن يتحوّل الضحايا إلى قتلة، لكن عبرة التاريخ لا تعرف الرحمة. اسمها: فلسطين.
* شاعر من سورية مقيم في الولايات المتحدة