الأدب العربي في اللغة الألبانية 1921-2021: قرن من الترجمة والتثاقف

25 أكتوبر 2022
فتحي مهديو
+ الخط -

صدرت هذا الشهر في عمّان ترجمة كتاب الأكاديمي الكوسوفي فتحي مهديو "الأدب العربي في اللغة الألبانية 1921-2021" ("الآن ناشرون"، 2022) بتوقيع المترجم إبراهيم فضل الله، الذي سيقدّمه في حفل إشهار بـ"معرض الشارقة للكتاب"، ليعرّف القراء بحالة فريدة من التعارف والتفاعل والتثاقف بين شعبين جمعت بينهما الدولة العثمانية 400 سنة وأكثر. فقد أدى اعتناق معظم الألبان للإسلام إلى تدفقهم إلى المنطقة العربية سواء للدراسة في مراكز العلم (دمشق والقاهرة وبغداد وغيرها) والحج والمجاورة في الأرض المقدسة (مكة والمدينة) والخدمة العسكرية والإدارية كولاة وقضاة، وهو ما ساهم في عودتهم بمعرفة جيدة بالثقافة العربية والمؤلفات التي استفادوا منهم في التدريس والتأليف والترجمة. 

ولكن تعدّد الأبجديات التي استخدمها الألبان في كتابة لغتهم (الحروف العربية عند المسلمين واليونانية عند الأرثوذكس واللاتينية عند الكاثوليك) وتأخّر الطباعة في الدولة العثمانية وتعدّد المراكز الثقافية خارج الوطن الأم (القاهرة وإسطنبول وصوفيا وبوخارست وروما وبوسطن) ساهم في حسم الوضع لصالح أبجدية واحدة (اللاتينية) بعد استقرار دولة ألبانيا المستقلة بحدودها الحالية في 1920، التي كانت أول دولة أوروبية بغالبية مسلمة. 

ولذلك يتضح هنا لماذا اختار المؤلف 1921 كبداية للكتاب الذي كان في الأصل أطروحة دكتوراه نوقشت 1990 وطبعت في 2008، أي في السنة التي استقلت فيها جمهورية كوسوفو، بينما دفعت الترجمات الكثيرة التي صدرت خلال سنوات الاستقلال المؤلف إلى أن يوسّع الأطروحة ليصل فيها إلى 2021. وبهذا الشكل أصبح الكتاب الآن يستعرض التعريف بثقافة عريقة تمتد حوالي 1500 سنة ابتداء من مختارات لامرئ القيس وانتهاء بمختارات شعرية لنجوان درويش صدرت عام 2021 بعنوان "بلد يسمّى الأغنية".

علاقة يوغسلافيا التيتوية بمصر الناصرية فتحت الباب للترجمة

وتنبع أهمية الكتاب من ناحية أخرى من المؤلف فتحي مهديو (1944)، الذي يعتبر من أبرز الأسماء في الدراسات الشرقية عند الألبان ومن أغزرهم نتاجا في التأليف والترجمة. وكان مهديو قد تخرج من قسم الدراسات الشرقية في جامعة بلغراد، حيث ناقش هناك رسالة الماجستير عن "ترجمات القرآن إلى اللغة الصربوكرواتية" التي وسّعها لاحقاً لتضم ترجمات القرآن إلى اللغة الألبانية أيضا. ويبدو أن انشغاله بهذا الموضوع دفعه إلى ترجمة القرآن إلى الألبانية ليدخل التاريخ في 1985 باعتباره صاحب أول ترجمة كاملة ومباشرة للقرآن من العربية، ليفتح الباب بذلك إلى ترجمات متنوعة تجاوزت العشر حتى الآن!

وباعتباره من مؤسّسي قسم الدراسات الشرقية في جامعة بريشتينا (1973)، الذي كان الثالث من نوعه في يوغسلافيا السابقة بعد بلغراد وسراييفو، فقد تأثر أيضا بأستاذه العالم المعروف حسن كلشي (1923-1976) الذي يمكن اعتباره مؤسّس الدراسات الشرقية الحديثة الألبانية، والذي اهتم بدراسة وترجمة الأدب العربي إلى اللغة الألبانية. وفي هذا الإطار جمع مهديو كأستاذه بين تدريس العربية في القسم ونشر الدراسات عن الأدب العربي وترجمة بعض ممثليه من الشعر الجاهلي حتى الأدب العربي الحديث. وإلى جانب ذلك فقد تابع حركة الترجمة وخصّص لها أطروحته للدكتوراه، التي تصدر الآن بشكل موسع لتشمل قرناً غنياً بالترجمات الألبانية لأكثر من 150 شاعراً وكاتباً عربياً.

في مقدمة الكتاب يعرّف المؤلف بصعوبة وخصوصية الحالة الألبانية خلال هذا القرن. فالكتاب الذي بدأ به القرن المذكور (1921-2021) كان أول ترجمة للقرآن لإيلو ميتكو تشافزيزي نُشرت في مطبعة للجالية الألبانية في رومانيا، بينما كان الكتاب الثاني مختارات من "ألف ليلة وليلة" نشرت في بوسطن عام 1924 بعنوان "تحت ظلّ النخيل" لفائق كونيتسا. أما في ألبانيا نفسها التي استقرّت بعد 1920 تحت حكم الرئيس والملك أحمد زوغو حتى 1939 فقد كانت تحت تأثير "الزوغوية"، على نمط "الكمالية" في تركيا، التي كانت تسعى لسلخ ألبانيا عن علاقتها بالشرق وجعلها أوروبية القوانين والثقافة والسياسة. 

ولذلك نلاحظ أنه باستثناء العلاقة بالأزهر ونشر بعض الكتب الدينية، كانت الترجمة من الأدب العربي محدودة. ومع وصول الحزب الشيوعي برئاسة أنور خوجا إلى الحكم في نهاية 1944 دخلت ألبانيا في تطرّف مضاد نحو الشرق الأيديولوجي (الماركسية اللينينية الخوجوية)، التي وضعت معايير صارمة لترجمة "الأدب الأجنبي" لم تسمح إلا لترجمة قصائد أو قصص لأفراد من الكتاب العرب كانوا يعتبرون من "اليساريين" أو "التقدميين" مثل عبد الرحمن الخميسي (1956) ومحمد ديب (1964) وعادل أبو شنب (1969) ومحمد عزيز لحبابي (1977).

ومن هنا قد يثير الاستغراب أن الموجة الأولى الكبيرة لترجمة الأدب العربي إلى الألبانية جاءت بعد الحرب العالمية الثانية في يوغسلافيا السابقة التي ضمّت النصف الآخر للشعب الألباني، وبالتحديد في كوسوفو ومقدونيا التي شهدت انفتاحاً على الغرب والشرق في آن واحد نتيجة لسياسة عدم الانحياز التي اتبعتها يوغسلافيا التيتوية. وهكذا كانت الصحف والمجلات الصادرة في يوغسلافيا تنشر لسارتر كما تنشر لتوفيق الحكيم. ولا شك في أن العلاقة الخاصة التي ربطت يوغسلافيا التيتوية بمصر الناصرية أثمرت توجهاً قوياً لترجمة أعمال الشعراء والكتاب المصريين والعرب أيضا. 

الصورة
غلاف

وهكذا يلاحظ في الجزء الأول من الكتاب الذي يتناول ترجمة أعمال الشعراء العرب إلى الألبانية أن البداية كانت في 1954 وتطورت صعوداً حتى السبعينات التي وصلت فيها إلى الذروة. وفي هذا الإطار كانت الترجمة خلال الخمسينات والستينات تتم غالبا من اللغة الصربوكرواتية (لغة الغالبية في يوغسلافيا) أو من الفرنسية وارتبطت بأسماء بارزة من كبار الشعراء والكتّاب الألبان مثل أسعد مكولي E.Mekuli وأنور جرتشيكو E.Qergjeku وآدم غيطاني A.Gajtani و لوان ستاروفا L.Starova ورجب اسماعيلي R.Ismaili. وفي الوقت نفسه دخل الميدان منذ 1954 حسن كلشي H.Kaleshi مؤسّس الدراسات الشرقية في الألبانية حيث عرّف لأول مرة بكبار الشعراء العرب مثل أبو العتاهية وأبو نواس وابن المعتز وابن الرومي والمتنبي، ثم انعطف نحو النثر ليعرف بتوفيق الحكيم ومحمود تيمور وينشر في 1968 أول مجموعة قصصية عربية في الألبانية بعنوان "الحاج جلبي وقصص أخرى" لمحمود تيمور.

ومع تأسيسه لقسم الدراسات الشرقية في جامعة بريشتينا في 1973 ظهر جيل جديد من مساعديه وطلابه دفع بترجمة الأدب العربي إلى الألبانية نحو موجة كبرى شملت السبعينيات والثمانينيات كان أبرز نجومها عبد الوهاب البياتي ومحمود درويش. أما البياتي فكان حضوره قوياً في يوغسلافيا وصدر أول مختارات من شعره في 1966 للمستشرق الصربي راده بوجوفيتش، على حين أن زيارته إلى بريشتينا في 1978 كانت لها تأثيرها بالطبع. وأما محمود درويش فقد ظهرت أول قصيدة له "الحرب" مترجمة إلى الألبانية في 1970 وتكاثر الاهتمام به بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان 1975 ومأساة تل الزعتر حتى أن فتحيو يصف عام 1978 بأنه "عام محمود درويش". وفي العالم اللاحق ظهر في بريشتينا أول كتاب في الألبانية بعنوان "أنتولوجيا الشعر العربي الحديث" لمحمد موفاكو.

ومع هذا العدد الكبير من الشعراء (حوالي 100 شاعر) يتوقع القارئ ما تناوله المؤلف في الجزء الثالث "انعكاس ترجمات الأدب العربي على الأدب الألباني". ومع أن الموضوع يستحق دراسة مستقلة لسعة ما تُرجم وتتبّع كل ما أنتجه الشعراء والكتاب الألبان في يوغسلافيا السابقة، لأن عزلة ألبانيا وصرامة الحملة الإيديولوجية "ضد المؤثرات الأجنبية في الأدب" كانت تحول دون وصول المؤلف إلى نتاج النصف الألباني الآخر، ينتهي المؤلف بعد تحليله للمؤلفات الألبانية إلى أنه أكثر ما أثّر في الأدباء الألبان حكايات "ألف ليلة وليلة" وكتاب جيزيل حليمي "جميلة بوبوشا" وأشعار معين بسيسو (ص 177). 

أما بالنسبة للكتّاب فيُلاحظ أن أهم الكتّاب العرب في النصف الثاني للقرن العشرين تُرجمت أعمالهم مثل محمد ديب وعبد الحميد بن هدوقة ورشيد بوجدرة ومالك حداد ومحمد العروسي المطوي وطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم (صدرت مسرحيته "أهل الكهف" في ثلاث طبعات) ومحمود تيمور وإحسان عبد القدوس وعادل أبو شنب (حظيت روايته "وردة الصباح" بثلاث طبعات) وزكريا تامر وغادة السمان وغسان كنفاني ويوسف ادريس وألفت الإدلبي وجورج سالم ورياض عصمت ومصطفى خليفة ووليد إخلاصي وعبد العزيز آل محمود وغيرهم.

جيل من المترجمين ظهر من قسم الدراسات الشرقية في بريشتينا 

أما الجزء الرابع والأخير من الكتاب، الذي غطّى السنوات اللاحقة بعد صدور الكتاب في 2008 ليصل إلى 2021، فهو يتزامن مع سنوات استقلال جمهورية كوسوفو عمّا بقي من يوغسلافيا وبروز العامل الألباني في جمهورية مقدونيا الشمالية (حوالي 25% من السكان) ويعبّر عن نقلة كمية ونوعية في ترجمة الأدب العربي إلى الألبانية. ويلاحظ هنا في هذه الفترة أن الترجمات أصبحت تتم على يد متخصّصين ينتمون إلى مؤسسات علمية (قسم الدراسات الشرقية ومعهد الدراسات الشرقية في بريشتينا وغيرها) كما أنها نُشرت من قبل دور نشر معروفة أو من قبل مؤسسات متخصصة (المركز الألباني للدراسات الشرقية في تيرانا ومعهد الدراسات الشرقية في بريشتينا).

وهكذا نجد في 2010 صدور رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" بترجمة كمال مورينا، وفي 2011 مجموعة على مصطفى المصراتي "قال الدرويش للولد" بترجمة رولاند فيشكورتي، وفي 2012 ترجمة مختارات شعرية لنزار قباني بعنوان "دمشق" بترجمة رولاند فيشكورتي، وفي 2013 مختارات شعرية لمحمود درويش بعنوان "قصائد المقاومة والحرية" بترجمة عبد الله حميدي، وفي 2014 "الوعد الحق" لطه حسين بترجمة أيوب رمضاني، وفي 2015 رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" بترجمة أيوب رمضاني، وفي 2016 رواية نجيب محفوظ "قلب الليل" بترجمة أيوب رمضاني، وفي 2019 مجموعة قصصية لمصطفى المصراتي بعنوان "ولا يزال المعطف معلقا" بترجمة رولاند فيشكورتي، وفي 2020 ثلاث روايات مميزة : "الكرنك" لنجيب محفوظ بترجمة أيوب رمضاني و"القوقعة" لمصطفى خليفة بترجمة عيسى مميشي و"القرصان" لعبد العزيز آل محمود بترجمة أيوب رمضاني، ومختارات شعرية لنزار قباني ومحمود درويش بعنوان "شذا النوستالجيا" بترجمة أغرون إسلامي. أما في 2021 التي توقف عندها المؤلف فنجد مختارات شعرية لنجوان درويش بعنوان "بلد يسمّى الأغنية" بترجمة محمد موفاكو، وهي التي صدرت في طبعة جديدة في 2022.

وأخيرا لم يفت المؤلف أن يشير إلى بعض المشاكل والملاحظات حول ما صدر من ترجمات خلال القرن المذكور. ومن ذلك تعددية الترجمة للقصيدة الواحدة مثل "الأطفال والحرب" للبياتي التي تُرجمت خمس مرات أو كتاب "النبي" لجبران الذي ترجم خمس مرات خلال 1987-2020، وكذلك معايير الاختيار ومن ذلك وجود ترجمات لـ "شعراء" لا نجد لهم تعريفاً أو حتى ذكراً لولادتهم أو وفاتهم حتى في الانترنت. ومن ذلك مثلاً "الشاعر" مصطفى أبو رهناب الذي مثّل مصر في المهرجان العالمي للشعر الذي يعقد في مدينة ستروغا في مقدونيا الشمالية منذ 1962، الذي ترجمت له فقط قصيدته التي ألقاها في المهرجان بعنوان "شكرا ستروغا". ومع اعتراف المؤلف في المقدمة بأن هذا الموضوع "أوسع مما كان يُظنّ"، فإن هذه الطبعة الموسعة يمكن أن تغتني أكثر بمعطيات جديدة في السنوات القادمة لتكشف عن ترجمات أخرى. 


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون