يقتسم الصراع على القضية الفلسطينية التاريخ، ليس اليوم وحسب، بل منذ أن بدأت الحركة الصهيونية في التخطيط للاستيلاء على فلسطين. فيُظهر المثقّفون والمفكّرون والمؤرّخون أكثر ما يستطيعون من براعة لتقديم الوقائع والأحداث التي تؤكّد وجهات نظرهم في الموقف الذي قرّر كلٌّ منهم اتخاذه تجاه هذه القضية. فإمّا أن يكونوا مع حقّ الفلسطينيين في وطنهم، وأرضهم، حقهم في العودة وفي الدفاع عن وجودهم، وإمّا أن يكونوا مع "حقّ" الصهاينة في الاستيلاء على الأرض، ومع "إسرائيل" في ما سُمّي "الدفاع عن النفس". أنصار "إسرائيل" يعتمدون، كما هو معروف، الرواية التوراتية لإثبات شرعية وجود هذه الدولة، إذ وجدوا سنداً في المقدّس الديني، بغضّ النظر فيما إذا لم تتوفّر أيّ دلائل تاريخية حقيقية على الأرض غير هذه الرواية. بينما يسعى كتّاب ومؤرّخون ممّن يؤمنون بحقوق الفلسطينيين لقراءةٍ مختلفة تعتمد التاريخ البشري وحده، بعيداً عن النصوص الجاهزة. والموقف من هذه القضية كان ولا يزال يحدّد الهويات.
يمكن لمن يتابع مجريات القضية الفلسطينية أن يلاحظ أن الصراع على التاريخ يشتدّ في كلّ زمن تحدث فيه تحرّكات فلسطينية على الأرض، وكلّما اتخذ النضال الفلسطيني وجهة جديدة، يكون قد بعث برسائل مختلفة إلى العالم تستطيع أن تخاطب الضمير أو الأخلاق أو المنطق أو الحقّ. الطارئ اليوم على الموقف أمران: الأوّل هو حالة العالم الذي يريد أن يتفهّم الرواية الفلسطينية، وهو أمرٌ تمكن ملاحظته من خلال تلمّس حقائق التبدّلات التي بدأت تطرأ على الضمير الأخلاقي والسياسي لدى شرائح واسعة من مختلف المجتمعات في الشرق والغرب.
لا تملك أي قضية في التاريخ الحديث القوّة الأخلاقية التي تملكها قضية فلسطين
والثاني هو انتقال عدد من المثقّفين العرب والمهتمين بالسياسة، والباحثين، وأصحاب الرأي، إلى الضفّة الأخرى من الرواية، أي ضفّة الرواية الصهيونية. حيث بدأ يظهر أثر التبدّلات السياسية التي حدثت في مواقف الأنظمة، من جهة، وأثر الهزائم المتكرّرة في الحروب والثورات من جهة ثانية، على توجّهات واختيارات التاريخ. وثمة مَن يريد منّا الاعتراف برواية العدو التاريخية، حين تبدأ رواية التاريخ الفلسطينية في الانتشار. تحت شعار الاعتراف بالأمر الواقع، وهو الاعتراف الذي يعني الإقرار بالرواية الصهيونية عن "الحق"، بينما يعني التظاهر ضد الاحتلال، أيُّ تظاهر أو أية انتفاضة، رفض الاعتراف بهذا الواقع، أي كشف الحقيقة عن الادعاء المزور.
اللافت أن نسمع اليوم مَن يغضب حين يسمع كلاماً عن "مركزية القضية الفلسطينية". أعتقد أنّ أية قضية تضع العالم بأسره أمام خيارَيْ العدالة الإنسانية أو اللاعدالة، لا يمكن إلّا أن تكون مركزية، أي أنّها بؤرة صراع، لا في المعارك الحربية، فهذا أمر تحسمه القوّة الإسرائيلية المدجّجة بالسلاح، بل في المعارك الضميرية، في المعركة على الحقيقة. فتأييد "إسرائيل" يستدعي الكذب والنفاق وتزوير الحقائق، بينما يستدعي تأييد الشعب الفلسطيني استعادة الوثائق والحقائق الواقعية، على صعيد عالمي، أي إنساني. ولا أعتقد أن لدى أي قضية في التاريخ الحديث، أو في راهن اليوم، القوّة الأخلاقية التي تستطيع تحريك الضمائر والعقول والمواقف السياسية بقدر ما لدى قضية فلسطين.
* روائي من سورية