اسم المنفى

10 سبتمبر 2021
تفصيل من عمل بعنوان "تحوّلات 3" لـ ستيف سابيلا
+ الخط -

اللافت أنْ يرتبط المنفى السياسي بنشأة القوميات والأوطان؛ هذا هو رأي الناقد الأميركي هاري ليفين في كتابه "انكسارات"، إذ يكتب: "إنّ طرد الكتّاب من أوطانهم، بسبب كتاباتهم السياسية، أو مواقفهم السياسية، يبدو إجراءً عصريّاً، وإنّ هذا الإجراء العصري يُبرهن ضمن ما يبرهن على انتشار القراءة والكتابة وتأثير الآلة الطابعة". 

وهكذا فإن الكتاب نفسه، وهو ثمرة من ثمرات نشوء الأمم، وتوسّع الأسواق في المرحلة الرأسمالية التي أنتجت فيما بعد مفهوم الوطن، وكذلك انتشار القراءة، ستكون من الأسباب غير المباشرة في العمل على إبعاد الكاتب المختلف سياسياً عن أيّ نظام من أنظمة الحكم (في التاريخ الأدبي أخبارٌ عن طرد الكتّاب بسبب أخطائهم الأخلاقية، وربما كان الشاعر الروماني أوفيد أكثر هؤلاء شهرةً؛ كذلك كانت القبائل العربية تطرد الشعراء "المارقين أخلاقياً" على قيَم القبيلة خارج حدود وجودها المادّي).

وقد صار النفي سياسة معلنة لدى كثير من الأنظمة التي بدأت تَضيق بالاختلاف السياسي أو تخشى أثر الكاتب والمفكّر في المجموع الذي أضحى موحّداً في كيان اسمه وطن، تقوده تلك السلطة. ولدينا لائحة طويلة من أسماء مفكّرين وكتّاب وفنانين وسياسيين منفيين من أوطانهم (في كلّ مرّة نذْكر الوطن، نذكّر بالسلطة التي تحكم الوطن). 

أثبتت الوقائع أن وجود الكاتب خارج بلاده أشدّ خطراً على الحكّام من وجوده في الداخل

ماركس مثلاً، ولينين، وهوغو الذي كتب من منفاه وقد توفّرت لديه القناعة بانحسار طغيان لوي بونابرت: "إن ما يجلبه المدّ في النهار/ سوف يسترجعه الجَزر". ومن هؤلاء هاينه ودانتي الذي مات مقهوراً خارج وطنه، علماً أن فلورنسا التي طردته إنما كانت تمثّل المدينة ـ الدولة. ويذكر إدوارد سعيد اسم الشاعر الباكستاني فيض أحمد فيض الذي نفاه نظام ضياء الحق.

ولكنّ التاريخ العربي المعاصر يخرج عن القاعدة، فلا توجد فيه واقعة تشير إلى قيام أي نظام عربي بإصدار قرار بالنفي السياسي، إذ كانت السلطات العربية حريصة على أن تُرغم الكتّاب على البقاء في الداخل. فقد أثبتت الوقائع أن وجود الكاتب خارج بلاده أشدّ خطراً على الحكّام من وجوده في الداخل. والظاهر أن أنظمة كثيرة في العالم قد انتبهت إلى هذا الأمر، وثمة إجراء يتّخذه كثيرٌ منها، وهو المنع من السفر، حيث لا تقدَّم في العادة الأسباب الموجبة لذلك، ولكنها تفهَم ضمن الإجراءات الأمنية الوقائية التي تحذّر من وجود الكاتب في الخارج.

ولدى مثل هذه السلطات الاستعداد الكامل لتصفية الكتّاب أو سجنهم لسنوات طويلة على أن تنفيهم. ولذلك، فإنّ الكتّاب العرب يحتفظون باسم المنفى لتسمية الأمكنة التي يعيشون فيها خارج أوطانهم، دون أن يسمّوا أنفسهم منفيّين. وأغلب الكتّاب الذين اختاروا المنفى خرجوا من بلدانهم سرّاً أو في غفلة عن السلطات الحاكمة. 

كأنّ شرط التسمية مرتبط بالطرد المباشر خارج الأوطان، إذ إن النفي في الغالب يرتبط بمدّة زمنية ما، لا بالأبد. وربّما كان العديد من كتّاب هذه "الأوطان" يتمنّون أن يكونوا منفيّين بقرار سياسي، على أن يكونوا فارّين دون أن يعرفوا وقتاً للعودة.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون