أعتقد أن الباحث والناقد حسام الخطيب هو الذي وضع الأساس لدراسة الأدب المقارن في جامعة دمشق، وكان كتاباه "أبحاث نقدية ومقارنة" و"سبل المؤثرات الأجنبية في القصة السورية" تأسيسيّيَن في سورية للدراسات المقارنة. في هذا الوقت، كانت المدرسة المصرية قد قطعت شوطاً مهمّاً في هذا الحقل على يد نقّاد مميّزين مثل محمد غنيمي هلال، وخاصّة في كتابه النظري "الأدب المقارن"، الذي كان واحداً من المراجع التي أشار إليها الخطيب، وقد سمّاه مؤسّس الأدب المقارن في الثقافة العربية.
ولكن المادّة تضاءلت بعد مغادرته للجامعة ولم تتقدّم الدراسات في هذا المجال، على الرغم من المحاولات الحثيثة للباحث والأكاديمي عبده عبود في دراساته النظرية والتطبيقية، بينما ارتفع في الصحافة ضجيج البنيوية، أو النسخة العربية من البنيوية. وهي نظرية تستبدل المقارنة بمصطلح التناصّ الذي لم تُعرَف أبعاده الفكرية والفلسفية في الوسط الثقافي قطّ، وقد سيطر الهواة على المجال النقدي الفقير أصلاً في بلد مثل سورية.
لماذا اختفى تقريباً الأدب المقارن وموضوعاته من دراساتنا الأدبية في العقود الأربعة الأخيرة؟
يؤسّس الأدب المقارن للعلاقات الثقافية التي تُغْني خبرات الشعوب، وفيما هو يبحث عن أشكال التأثّر والتأثير المتبادلين بين ثقافة وأخرى، يُظهر الجوانب التي يمكن فيها للثقافات المهمّشة أن تكون مؤثّرة بطريقة أو بأخرى في السياق العام للثقافة العالمية.
قد يكون الأدب المقارن ضحية للقول بأننا نتعرض لغزو ثقافي
اللافت أن النقد العربي في معظم تياراته ومدارسه، نجمَ عن علاقات التأثّر بالثقافات الأجنبية، وخاصة في القرن العشرين، كما أن المناهج النقدية نفسها كانت في الجانب العربي تعبيراً عن مواقف فكرية وسياسية تعلن الانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك في الصراعات الاجتماعية. كذلك كانت الرواية العربية والمقالة والقصة القصيرة والمسرح العربي، ثمرة العلاقات الثقافية بيننا نحن العرب، وبين واحدة من الثقافات العالمية في كافة أرجاء الأرض.
وإذا كانت الثقافة الغربية قد أخذت الحصّة الكبرى في أشكال التلقي، فإن العرب عدلوا مصادر التلقّي الثقافي بعد ذلك إلى معظم اللغات. من اليابان إلى إسبانيا، إلى أفريقيا وروسيا والصين. لهذا يبدو غياب الأدب المقارن نوعاً من القطيعة المعرفية، بين ثقافتنا، بل بين أجنحة مؤثّرة من ثقافتنا الأدبية والفكرية، وبين ثقافات العالم. لماذا هذا التراجع، وشبه الغياب عن حياتنا الثقافية؟ بل إن مجرد وجود شبهة التشابه بين عمل أدبي عربي وآخر من أيّ ثقافة يستدعي من بعض الأقلام الصحافية اتّهامات بالتقليد والنقل.
الملاحَظ أن حقبة السبعينيات من القرن العشرين قد شهدت موجة من التفكير العربي في نظرية المؤامرة الثقافية. قيل حينئذ إنّنا نتعرض للغزو الثقافي، لا يعرف بالضبط اليوم مَن هو صاحب النظرية، والظاهر أنها كانت مناسبة لأكثر من اتّجاه وسُلطة كي يتمّ تبنّيها للتخلّص من الأفكار القادمة إلى الداخل، قبل أن تصل إلى الجمهور العام، أو الشعب. وقد يكون الأدب المقارن، الذي يُعنى بانتقال الأفكار وقضايا التنوير و"التفاهم الثقافي والفنّي بين الشعوب"، أحد ضحايا هذه النظرية التي تشي بالرغبة في العزلة والتقوقع.
* روائي من سورية