رغم أن فعل الإجرام قديمٌ قِدم البشرية نفسها، إلّا أن التفكير فيه بوصفه موضوعاً لحقل بحثيّ على حِدة لم يرَ الضوء إلّا خلال القرن التاسع عشر، الذي شهد صدور العديد من الأعمال، في العلوم الإنسانية كما في العلوم الوضعية، التي حاولت وصف الطبائع السلوكية والنفسية، ومنها السلوك المنحرف والعنيف.
وقد كان الباحث الإيطالي سيزاره لومبروسو من أوائل الذين درسوا هذا السلوك، في كتابه "الإنسان المنحرف" (1876)، الذي يُعَدّ من الأعمال المؤسّسة لما سيُعرَف لاحقاً بعِلم الجريمة؛ ويعطي كتاب لومبروسو نموذجاً عن القراءة التي قدّمتها المدرسة الوضعية الإيطالية للجريمة، حيث نُظر إلى الإجرام والانحراف والعنف كصفات جوهرية تولَد مع الأشخاص وترافقهم طيلة حياتهم كقَدَر لهم.
وعلى الطرف المقابل، ستبرز في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر مدرسة عِلم اجتماعية وأنثروبولوجية فرنسية، تنظر إلى الجريمة بوصفها نتيجةً لسياق اجتماعي، وليس صفةً ثابتة في الفرد، ومن الذين دافعوا عن هذه النظرة عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم (1858 - 1917)، الذي أصدرت منشورات "فلاماريون" في باريس، حديثاً، كتاباً لم يسبق نشره له من قبل، بعنوان "دروس في سوسيولوجيا الجريمة".
يمثّل الكتاب استعادة لمحاضرات قدّمها دوركهايم حول مسألتَيْ الجريمة والعِقاب في "جامعة بوردو" خلال العام الدراسي 1892/ 1893، وقد عثر عليها الناشر الباريسي في مخطوطٍ بقلم ابن أخت دوركهايم، عالِم الأنثروبولوجيا مارسيل موس (1872 - 1950).
وكما سيُعرَف عن دوركهايم لاحقاً في كتابه "الانتحار"، الذي يحلّل فيه هذه الظاهرة، لأوّل مرّة، من وجهة نظرٍ تأخذ بعين الاعتبار التفاعل الاجتماعي والظروف المحيطة بالمنتحِر بوصفها عوامل أساسية في وضعه حدّاً لحياته، فإنّه يُبدي النظرة ذاتها في ما يخصّ الجريمة، التي يشرحها انطلاقاً من التغيّرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتأثيرها في اختلال البنى العائلية والمعايير القيَمية والدينية لدى الأفراد، ما يجعل من الجريمة لحظةَ خروج عن معيار أو عقد اجتماعي، لا طبيعة يتّصف بها الفرد.