من أعاجيب العصر الراهن في هذه المساحة العربية الممتدّة من الماء إلى الماء، أن تندفع قطعانٌ بشريّة مسلَّحة بالسواطير والبنادق والأقنعة وتقتحم المتاحف والمناطق الأثرية، وتُشاهَد في المتاحف وهي تنقضّ على العاديات الأثرية من مخطوطات ورُقم وتماثيل وصور، فتحرق أو تحطّم أو تسرق ما تقع عليه أظلافها ومخالبها، ثم تمضي إلى المواقع الأثرية، فتفجّر العمائر بالألغام، وتفتّت التماثيل بالمطارق، وتترك الأمكنة خاليةً إلّا من مرور السوافي والكلاب الضالة.
كلّنا شهدنا هذا. بعضُنا شهدَه عن قرب، وبعضنا عن بعد ــ على شاشات الفضائيات وصفحات الصحف. وكلّنا تقريباً أخذنا بأنّ هؤلاء ظلاميّون متعصّبون ضلّوا طريقهم إلى العقيدة الإسلامية، أطلقتهم فتاوى شيوخ الارتزاق والتمصلح. ولم نسأل السؤال المنطقي: كيف لقطيعٍ ضال، أعماه الجهلُ والتعصّب، أن يتّجه نحو أدلّة الحضارات العربية الملموسة، وحتى إلى مساجد حلب وكنائس معلولا، فينهال عليها تدميراً؟ وأيّ ضوء قاد هؤلاء إلى المتاحف والمدن الأثرية، خصوصاً في العراق وسورية تحديداً؟
الواضح أنّ العمى أو التعصّب أو حتى الارتزاق لا يقود تلقائياً إلى أماكن كهذه. قد يقود إلى حقول النفط والغاز، وقد يقود إلى السيطرة على صوامع الغلال وإحراق حقول القمح والأشجار المثمرة، وهو أمرٌ "مفهوم"، وحدث ويحدث فعلاً، بصفته جزءاً من سرقة ثروة وطن أو قطْع أرزاق مواطنيه وإرهاق حكومته، وملء جيوب هذه القطعان العمياء بالأموال. إلّا أنّه لن يقود إلى أدلّة حضارية (عمائر وتماثيل ورُقم ونقوش) قائمة منذ آلاف السنين، والأخذ بتدميرها أو سرقة ما خفّ منها وغلا ثمنه، تدميراً منظّماً وبإصرار، إلاّ في ضوء هدفٍ ما.
سعيٌ لإفراغ الوطن العربي من تاريخه ومن دلائل وجوده
بالطبع، قد لا يكون هذا الهدف نُصب أعين هذه القطعان، ذات الأظلاف والمخالب والوجوه المقنّعة، والأردية الملفّقة ــ التي لا تنتمي إلى أيّ زيّ مألوف من أزياء البشر المعروفة حديثاً وقديماً، بقدر ما تنتمي إلى عصور خارج التاريخ ــ إلّا أنّه موجود بلا شكّ في أدمغة من زوّد هؤلاء بالأسلحة والسواطير والشاحنات وظلّلهم بأحدث الطائرات المقاتلة والقاصفة، بل وزوّدهم بالأدلّاء الذين يعرفون تماماً ما هي طبيعة مثل هذه المهمة ووجهتها التي لا تحيد عنها.
لمعرفة هذا الهدف، نبدأ باستقراء الدلائل. أوّلها، أنّ التدمير والتخريب الذي يصل إلى حدّ المحو يتّجه نحو آثار حضارات عربية ملموسة وماثلة على وجه الأرض، أو مهموسة في صفحات الرُقم الطينية والمخطوطات، ولا شيء سواها. إنّه يدمّر ويمحو آثار بابل وآشور والكنعانيين والتدمريين والسبأيين ومصر القديمة، أي كلّ ما هو معرفةٌ بالماضي متراكمةٌ وتُعتبَر أحد مصادر قوّة أية ثقافة معاصرة لشعب من الشعوب.
ثاني هذه الدلائل أنّ عدداً كبيراً من هذه الآثار ــ سواء كانت رقماً طينية أو مخطوطات أو تماثيل ــ اتّخذ طريقه إلى متاحف المستعمرة الغربية المسمّاة إسرائيل، الملصقة بالساحل الفلسطيني، وكان الاحتفاء بالاستيلاء عليها هناك بارزاً ومعلناً. ثالث هذه الدلائل أنّ الانتقاص الغربي من قيمة، بل من أصالة هذه الآثار الحضارية المنتمية حصراً إلى الأرض العربية، كان معلناً منذ بدأ الكشف عنها وقراءة رُقمها بعد فكّ رموز أبجديّاتها، المسمارية والكنعانية (المسماة فينيقيةً خطأً) والهيروغليفية، كما شرح الباحث الدنماركي موغنس لارسون في كتابه "فتح آشور" (1997). إلى درجة الزعم أنّ "التراث المنسوب إلى بابل وآشور زائفٌ وغير حقيقي"، وإلى درجة طمس هويّة هذه الحضارات العربية ونسبة منجزاتها، تارة إلى هويات مختلقة تُدعى "ساميّة"، وأخرى إلى هويات طارئة من خارج اللغة العربية.
كلّنا شهدنا هذا، بعضُنا شهدَه عن قرب وبعضنا عن بعد
تقودنا هذه الدلائل، حين نجمعها معاً، إلى هدف واحد لا غير، هو إخلاء تاريخ وطننا العربي من أيّ أثر ملموس أو مهموس، أي من معرفة الماضي المتراكمة التي تُعتبَر أحد أهم مصادر قوّة أي شعب من الشعوب، والتي تشكّل هويّته المتماسكة ودليله إلى معنى وجوده في الماضي والحاضر، والأكثر أهمية، هو أنّها دليله إلى جمع شتاته، وبوصلته في يد أجياله المتعاقبة. فلماذا تمّ توجيه هذه القطعان هذه الوجهة، وبدا ما مارسته من تدمير وسرقة منظّماً ومخطّطاً له؟
في ضوء ما توافر من إمكانيات خُرافية لهذه القطعان؛ التسليح والتنظيم والحماية وتسهيل السيطرة، بل وما كشف عنه بعض الكتّاب الغربيّين، لم يعد هناك مِن شكّ في أنّ أجهزة دول الغرب المتحالفة، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأميركا، وجّهت تلك القطعان هذه الوجهةَ، مستعينةً بعُلماء اجتماع ولاهوت وأنثروبولوجيا ونفس. وقد فعلت ذلك دفاعاً عن أهمّ مرتكزاتِ هيمنتها الثقافية، أي أسطورتها المصنوعة بحسب اعتقادها من عدّة عناصر (يونانية ورومانية) وضعت على رأسها العنصر التوراتي، ذاك الذي حوّلت به وطننا العربي، بل والشرق كله، إلى شرق توراتي، لا تاريخ له سوى أقاصيص التوراة التي حوّلوها إلى تاريخ.
ولأنّ دول الغرب أقامت بأسطورتها هذه تماهياً بين أسطورة "شعب الله المختار" و"العرق الأبيض المختار"، أصبح الحفاظ على "شرق توراتي" ــ يمتدّ، حسب تخريف اللاهوتي الأميركي وليام فوكس أولبرايت، من جنوب روسيا إلى جنوب الجزيرة العربية، من جانب، ومن إسبانيا غرباً وحتى الهند شرقاً، من جانب آخر ــ أداة استعمار فكري أشدّ فتكاً، مضافاً إلى استعمارها العسكري والاقتصادي، ولذا أصبح محو ما يناقضه ضرورة حتمية.
تتّضح هذه الضرورة إذا عرفنا ما حدث مع الكشف عن آثار حضاراتنا القديمة بسِماتها المميّزة، وأوّل ذلك وثائقُها الأصلية المنقوشة على الرُقم الطينية وجدران القصور والمعابد. فقد حَوَّل هذا الكشف "تاريخ" التوراة إلى أساطير محضة، وبدأ علماء التاريخ والآثار بقراءة شرق غير توراتي. وهذا هو سبب الهجوم منذ البداية على قيمة هذه الكشوفات أو محاولات تزييف دلالاتها ولغاتها وهويّة الشعب الذي أبدعها، حمايةً لخرافة شرقٍ توراتي لم تعد تصمد أمام يقظة علميّة، طمَسَها المحتلّون حين ظهرت، ثم عادت إلى الظهور في أواخر النصف الثاني من القرن العشرين.
القطعان التي هاجمت ودمّرت آثار بابل وآشور وتدمر وسبأ، لا تعي ما فعلت. فهي مجرّد أدوات، شأنها شأن المطارق والسواطير ومئات الشاحنات اليابانية اللامعة التي حملتها. لكنّ مَن له علاقة بهذا التخريب والدافع إليه هو المحتلّ الغربي، حامل أسطورة "العرق الأبيض المختار" المرادفة لأسطورة "الشعب المختار"، ومطامعه الاستعمارية، في وطن ما زال موضعَ مطامعه منذ خرج هذا البدائي الهمجي من أحراش أوروبا المظلمة وأطلّ على شرقٍ متحضّر أسالت عمائره ومنتجاته وسُفُنه وخيرات أرضه لعابَه، وما زالت تستثيره حتى اليوم.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين