"إعادة تخيُّل بيروت" لوسام بيضون: غنائية التجريد وبرّانيتُه

06 نوفمبر 2022
(من المعرض)
+ الخط -

يحتفي "غاليري آرت أون 56" في بيروت بمرور عشر سنوات على افتتاحه من خلال معرض للتشكيلي اللبناني وسام بيضون عنوانه "إعادة تخيُّل بيروت" (يستمرّ حتى 12 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري). ليكون المعرض حنيناً إلى بيروت، التي لم تعد نفسها منذ سنين عرفتْ خلالها ثورةً قصيرة، تلاها انفجار ضخم في مرفئها، وانهيار مالي واقتصادي شارف عتبة الجوع.

المعرض غنيٌّ عن ذلك، وهو خارجه. إنه مديح، بل صَلاة لبيروت القديمة. بل نحن هنا لا نجد سوى مثال لمدينة، وغناء لمدينة. كأن بيروت هذه، إذا دلّتِ اللوحات حقاً عليها، لا تكاد تتجاوز ذاكرة المدن، ولا تزيد عن أن تكون احتفالاً وتعييداً وتغنّياً بمدينة. ولفرط ما هي كذلك، تكاد تكون حلماً لمدينة ونمذجةً لها، أكثر ممّا هي لمحات وثوان ومشاهد من داخلها. نقول "مشاهد"، ولا نعني تماماً الكلمة.

وسام بيضون - القسم الثقافي
(من المعرض)

لوحة وسام بيضون التي تبني من التجريد ما يكاد يكون صورة من الجوّ لتكوينات متناغمة، تقترب من أن تكون طبيعة حالمة، هي أيضاً ما يبقى من أمكنة، وهي، في الوقت ذاته، قصصها وذكرياتها وصفاتها وهندستها وسياقاتها. لوحة وسام بيضون، إذا كانت بيروت حقّاً موضوعها، لا صِلة لها بوقتها وحاضر المدينة. إنها تبني مدينة من أحلام ومثالات.

لكنّ ما يدعونا إلى مقابلة المعرض بالمدينة التي يحمل اسمها، ليس إلّا نظراً للوحة تحت هذا العنوان، ومحاولة لفحص علاقتها به. نخرج من ذلك إلى أن طموح اللوحة لتكون وثيقة مدينية، قد لا يكون أكثر من ادّعاء، بل قد يكون محض إسقاط. لا يصعب أن نتخيّل أن تحت المربعات الملوّنة، والخطوط التي تحيطها وتجعلها متتالية متواصلة إلى هذا الحد أو ذاك، لا يصعب أن نتخيّل أن تحت ذلك ترسيمة لمدينة أو موقع مدينيّ.

لا يحول الإتقان في اللوحات دون إحساسنا بالبُعد عنها

لكنّ هذا، في الغالب، شأن العنوان وشأن المناسبة، بدون ذلك لا نبعد عن أن نجد في لوحات المعرض، ببنائها وترسيمتها وإيقاعها الداخلي، ما يمتّ فوراً إلى حقبة من التجريد الغنائي، الفرنسي أو الأميركي. يمكننا أن نردّ اللوحة إلى سابقات لها في مرحلة قريبة العهد. أن نتذكّر معها فناناً مثل موريس إستيف الفرنسي؛ وليس إستيف وحده، لكنْ معه اللوحة التجريدية في بواكيرها، وفي دارجها في ما بعد.

كما هو التجريد عادةً، ليست لوحة وسام بيضون ذاتَ موضوع، ولكنّها أيضاً ليست ذات موقف أو رسالة من أيّ نوع. لوحة وسام من خلاصات هذه المدرسة، إنها نموذج اللوحة التجريدية، والرسّام يفعل ذلك بإتقان وحرفة. متأمّلُ هذه اللوحة لا بدّ أن يلاحظ فيها هذا التناسق الهندسيّ واللوني. إنها من هذه الناحية ذات إيقاع يوحي بالسلام والسكينة، كما يُقارب الغناء.

وسام بيضون - القسم الثقافي
(من المعرض)

من هذه الناحية لا بدّ أن لوحة بيضون تُفحمنا بترتيبها وبنائها وسلاستها وتناسقها. إنها لوحة مبنية على حِرفة ومعالجة خبيرة وحرفة. إننا هنا تجاه خوض في التجريد وتشبُّع منه، وقدرة على معالجته والوصول به إلى ما يشبه نموذجاً تجريدياً متكاملاً.

مع ذلك فإن لوحة وسام بيضون محيّرة. إننا نشعر بما فيها من خبرة وتجريب، لكنّ هذا لا يمنعنا من الإحساس بأن لوحته لا تعدو أن تكون درساً في التجريد، وواحدة من خلاصاته. لا يمنعنا ذلك من أن نشعر ببُعدٍ ما عن اللوحة. ليس بُعداً عمّا فيها من سلام وهدوء فحسب، بل أيضاً بُعدٌ عمّا فيها من تناسق وترتيب وإيقاع، وكأن ذلك يجعل منها سطوحاً برّانية، ويُصيبها، بما يبدو في النهاية، تزييناً خالصاً، أو تمريناً على الفن، ومجرّد نمذجة وإعادة تجعلان من اللوحات واحدةً، وتجعلان منها إيقاعاً مكروراً، وإيقاعاً برّانياً وفوق الواقع، خاصّة إذا كان هذا الواقع المفروض مدينةً تُعاني ما تعاني بيروت. إذ ذاك تغدو اللوحة أغنيةً في الفراغ، وأمثولةً وإعادة فحسب.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون