إعادة الاعتبار للفكر التحرُّري

24 أكتوبر 2023
من مظاهرة في الجزائر العاصمة دعماً لفلسطين، 13 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري (Getty)
+ الخط -

إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها، وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين مُعمَّدة بدم أبنائها.


1

في البداية لديَّ ملاحظتان؛ الأُولى: ما الذي نعنيه اليوم بـ الثقافة العربية في ظلّ التناقُض والصراع والخلاف العربي وسيطرة السياسي على الثقافي؟ والثانية: هل نمتلك الشجاعة، كنُخب، لخوض معركة تحرير العقل العربي السياسي والثقافي من التلوّث الانهزامي الذي ما فتئ يتكرّس طوال العقود المتتالية لهزيمة 1967، وخيانة روح حرب 1973، وخدعة خطاب "السلام" الذي دشّنته رحلة محمّد أنور السادات إلى "الكنيست" وكادت أن تتحوّل إلى عقيدة يصعب الخروج عليها؟

ما حدث على الساحة العربية خلال النصف الثاني من القرن الأخير غيّر كثيراً من ملامح العالم العربي القديم، وغيّر من موازين القوى، وأعاد صياغة الكثير من الأسئلة التي كانت مرتبطة بالهويات العربية والتراث ووجهات الحاضر والمستقبل بشكل غير مسبوق، ما جعل الكثير من العقائد الجديدة المتوارَثة تحتضر بشكل عنيف. وكانت معظم المحاولات التي جرَّبت التجاوز باءت في أغلبها بالفشل أمام طغيان الشعبويات في ظلّ الإخفاق المتجدّد لصناعة النهضة، والتراجُع المخيف الذي سجّله العقل النقدي أمام لاعقلانيات "العقل العربي المتشظّي" في التعاطي مع مسألة التحرُّر القومي المركزية، وهي القضية الفلسطينية.

المقاومة بحاجة اليوم إلى لغة جديدة وفكر مغاير وعقل عملي

لقد جرى التخلّي عن القضية الفلسطينية ثقافياً، واختُزلت في المسعى السياسي الخاضع للحسابات السياسية التي تُمليها لعبة التوازنات وموازين القوّة والأمزجة السياسة، وجُرّدت من كلّ معانيها الرمزية والإنسانية، وجرى احتكارُها من قبل الساسة واللاعبين الكبار في لُعبة الأمم، وبالتالي أُبعدت الثقافة كلاعب أساسي في صياغة الرؤية وصناعة الخطاب، ولم تعُد إلّا ديكوراً.

ولذا، فإنّ الثقافة العربية مطالَبة بإصلاح نفسها، أوّلاً حتى تكون قادرةً على أن تُؤدّي دوراً فاعلاً لصالح القضية الفلسطينية، يتمثّل في تحرير القضية من كلّ الخطابات المُثبِّطة التي علقت بها، والانتقال بالقضية الى مرحلة الأسطورة الإنسانية، لأنّها تُمثّل الحقيقة في التاريخ وفي سيرورة الحاضر. والمستقبل الإنساني المشروط بمعرفة هذه الحقيقة الداحضة للحقيقة الاصطناعية، "الحقيقة" الإسرائيلية المبنيَّة على الكذب والتضليل الكبير المدعوم بجهاز الدعاية الذي يمتلكه اليمين العبري/ الأورو- مسيحي العنصري الفاشي.


2

تُشكّل الثقافةُ روحَ الهوية المتحرّكة والمُتجدّدة والتناغُم مع حركة التاريخ. وبالتالي، فهي العنوان الحقيقي للسيادة ومحرّك التحرُّر الدائم ذاته، وليست مجرّد أداة. ومن هنا فهي تربط بين الإنسان والأرض والوجود وتمنح المعنى الشامل في معركته الكبرى في تحقيق الحرية التي لا يُمكن أن تنفصل عن الكرامة؛ حرية النقد، وحرية العيش، وحرية الخلق، وحرية التعبير والكلام، وحرية الاختيار، وحرية ابتكار العقائد وتبنّيها والدفاع عنها، كما أنّ هذه الثقافة لا تقتصر على الأشكال والتعابير التقليدية والمتعارَف عليها، بل تشمل كلّ السلوكات والأنماط الهامشية والتمظهرات التي تُفرزها التطوّرات والقطائع في تيار الأزمنة المتراكمة داخل الجماعات الوطنية والمجموعات الدينية المتعدّدة داخل الوحدة القومية، ما يساعدها على الانخراط في عملية الحوار الذي يمنحنا القوّة على تحقيق استقلال الذات الجماعية وتكاملها مع الذوات الأُخرى المبنية على العدالة والحرية.

إعادة كتابة تاريخ المنطقة العربية من زاوية الفكر التحرُّري

لا حرية ولا تحرُّر مع سيادة الجهل. لذا فتعميم المعرفة النقدية والعملية والتحرُّر من الغيبيات السياسية أيّاً كان شكلُها هو طريقنا لنجعل من الثقافة فعلاً يساعدنا على تحرير الانسان من أوهامه، ومن الأوهام المفروضة عليه بالقوّة والتسلّط والهيمنة من قبل إمبريالية الإعلام والوسائل الجديدة للدعاية.


3

المقاومة بحاجة اليوم إلى لغة جديدة وفكر مغاير وعقل عملي، وذلك لا يمكن أن يكون عملاً فردياً، وإنّما يُمكن أن تأخذ المبادراتُ الفردية معنىً حقيقياً عندما يكون هناك دور للمجتمعات الأهلية في البلدان العربية، وقد يكون ذلك بإقامة شبكات متضافرة ومتعاونة، يتركّز عملُها عبر مراكز بحث حقيقية، تكشف الوجه الحقيقي لأعداء الشعب الفلسطيني من دول، ومنظّمات، وشخصيات، وخطط، وأساليب، وثقافات... إلخ، ومواقع إلكترونية، وسينما، ومسرح، وأشكال تعبيرية ثقافية شعبية، تتوجّه إلى قوميات وجنسيات وثقافات أُخرى صديقة، وخصمة، وعدوّة، وخلق تحالفات ثقافية، ودبلوماسيات ثقافية، ودعم مثقّفين ومفكّرين ونشطاء ثقافيّين وإعلاميّين من أصدقاء القضية الفلسطينية وقضايا التحرّر، وإعادة الاعتبار لفكر التحرُّر العالمي الذي تعرَّض منذ نهاية الحرب الباردة لعملية طمس وتشويه، وتكريم كلّ من تعرّضوا للمضايقات والتهميش من مثقّفين نقديّين وعلماء ناضلوا ضدّ الفكر الصهيوني والعنصرية الفاشية من داخل "إسرائيل" وخارجها، والاعتناء بثقافة الطفل القائمة على فكر التحرُّر، وتجاوُز تلك التقسيمات المانوية التي سادت العقل العربي اليساري أو غير اليساري والسعي لإعادة كتابة جديدة لتاريخ المنطقة العربية من زاوية الفكر التحرُّري.

* كاتب ومسرحي من الجزائر

 

هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".

لقراءة الجزء الأوّل من الملفّ: اضغط هنا

المساهمون