إطلاق موسوعة غوستاف دالمان بالعربية: صورةٌ شاملة عن استمرارية الحضارات في فلسطين

07 يونيو 2024
من إطلاق الترجمة العربية للموسوعة في "المركز الثقافي الملكي" بعمّان
+ الخط -
اظهر الملخص
- في ندوة بعمّان، تم تسليط الضوء على موسوعة "العمل والعادات والتقاليد في فلسطين" لغوستاف دالمان، التي تعكس صورة شاملة للحضارات في فلسطين متجاوزة الانحيازات الدينية والعرقية.
- ترجمة الموسوعة إلى العربية كانت مهمة معقدة بسبب اللغة الألمانية القديمة والتفاصيل الدقيقة للحياة في فلسطين، حيث قضى محمد أبو زيد وفريقه سنوات في هذا العمل.
- الموسوعة تقدم مرجعاً دقيقاً للباحثين حول الحياة اليومية، العادات والتقاليد في فلسطين مطلع القرن العشرين، مؤكدة على المنهجية العلمية الرفيعة لدالمان في توثيق التاريخ الفلسطيني.

تكشف المداخلات الخمس، التي قُدّمت في ندوة إطلاق موسوعة "العمل واالعادات والتقاليد في فلسطين" التي نظّمها "المركز العربي للأبحاث" في عمّان أوّل أمس الأربعاء، أبعاداً مركّبة من شخصية مؤلّف الموسوعة، المستعرب الألماني وعالم اللاهوت والآثار واللغات القديمة غوستاف دالمان (1855 - 1941)، ومنهجيته، ومجموعاته الأرشيفية الضخمة.

وتوافق المتحدثون في الندوة، التي احتضنها "المركز الثقافي الملكي"، على رؤية استثنائية امتلكها صاحب الموسوعة الذي أتى إلى المنطقة العربية عام 1899، وتنقّل بين مدن فلسطين وقراها حتى سنة 1917، قبل أن يعود إليها مرّةً أُخرى ويقيم فيها أعواماً عدّة، ويستغرق بقية سنيّ عمره في تأليف موسوعته التي صدرت بتمام أجزائها بعد رحيله بعام، واتّسمت بتقديمها صورة شاملة عن استمرارية الحضارات على أرض فلسطين.

ورأى الطبيب وأستاذ اللغة الألمانية والمترجم محمد أبو زيد، في أُولى المداخلات، أنّ دالمان خلق فضاءً من خلاله استطاعت فلسطين أن تتحدّث عن نفسها، أن تحكي روايتها، وتركها تتحدّث عن الميلاد والحياة والزفاف والموت. وأضاف "كان باحثاً رصيناً ولم يكن مندوباً سامياً".

تحرّر دالمان من انحيازات المستشرقين الدينية والعرقية

وعن تجربته في نقل سبعة مجلدات من الموسوعة خلال عشر سنوات، قال: "يمكن تشبيه ترجمة موسوعة دالمان بدخول منطقة مجهولة التضاريس، بلا بوصلة ومعلومات مسبقة"، مشيراً إلى أنّه لم يسمع باسم دالمان أثناء دراسته في ألمانيا، مع أنّ وجوده في برلين الغربية (قبل عام 1989) التي كانت مزنّرة بالجدار المشهور، والمقسّمة حتى داخلياً، أثار منذ البداية فضوله وشكّل سبباً لاهتمامه بتاريخ ألمانيا وبالأدب الألماني، وليس بالأزمنة القديمة.

وأضاف: "سمعتُ بهذا الأسم للمرّة الأُولى عام 2003، حين طرح الجغرافي والباحث الفلسطيني الراحل كمال عبد الفتاح (1943-2023) فكرة ترجمة مشروع دالمان على مدير 'معهد غوته' في رام الله، لكنّه لم يَلق آذاناً صاغية"، مبيّناً أنّه بعد عشر سنوات، وبالتحديد في 19 شباط/ فبراير 2013، أبلغه عبد الفتاح أنّ المشروع سيكون في الغد على بساط البحث في لقاء مع الباحث والمترجم الأردني الراحل فايز الصياغ (1942 - 2020)، مدير وحدة "ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، ليبدأ المشوار "أحياناً بشكل منتظم، وأحياناً متقطّعاً، وأحياناً يتحوّل إلى سباق تتابُع"،

الصورة
غلاف الكتاب

مشوارٌ تحدّث عنه أبو زيد بالتفصيل: "المادّة لم تكن سهلة، كانت مكتوبة بلغة ألمانية من القرن التاسع عشر، ومؤلّفها كثير الاستطراد والاستشهاد والتنقّل بين لغة وأُخرى، وبين عهدٍ قديم وعهدٍ جديد، تاركاً إياي ألهث خلفه، وقد سادت الحيرة وغابت المتعة، إلّا أن الوضع تغيّر بشكل تدريجي بعد أن وُضع تحت تصرّفي ما بقي من مجلّدات، بعضُها من أجل الترجمة، أو إعادة الترجمة، والأُخرى من أجل المراجعة، أو إعادة المراجعة. حينئذ، بدأت تتّضح معالم الطريق وحجم المسؤولية، وهو ما شحذ همّتي".

رحلة شاقّة وشائقة، هكذا يمكن وصف تجربة أبو زيد في ترجمة الموسوعة، وهو يحاول أن يعيش النصّ باللغتين العربية والألمانية، وربما ساعده على إنجاز العمل ثلاثة عوامل كما حدّدها؛ أوّلها ذهنيٌّ يتمثّل بميل فطري إلى اللغة كان قد ظهَر في فترة مبكرة من حياته، وثانيها بدني يتمثّل في أنّه حظيَ بميل للمشي مسافات طويلة، وهما عاملان أُضيفت إليهما "كوورنا"؛ قضى خلالها أشهراً حبيس غرفة عمله.

جمع معلوماته خلال عقدَين وأمضى بقيّة عمره في توثيقها

أمّا أستاذ لغات الشرق القديم والباحث عمر الغول، فعاد بذاكرته إلى عام 1985، أيام دراسته مساقاً حول اللغة الأورغاريتية في برنامج الماجستير بـ"جامعة توبنغن" الألمانية، حيث قدّم مدرّس المساق شروحات تفصيلية عن الشرق وأهله وعاداتهم، مستعيناً بموسوعة دالمان، ما دفع الغول إلى البحث عن الكتاب ومراجعته بين الحين والآخر، مضطرّاً وراغباً، حتى وقع في غرامه، وفق تعبيره.

في مطلع الألفية الثالثة، بذل الغول مساعي لإقناع مؤسّسات عديدة لترجمة الموسوعة دون طائل، ليُفجَع عام 2011 بالإعلان عن بدء ترجمتها إلى العبرية، إلى أن اقترح الأمر على الراحل فايز الصياغ سنة 2012، الذي زفّ له بعد فترة قصيرة موافقة "المركز العربي" على تبنّي المشروع، على أن يترجم هو كتاب "القدس في محيطها الطبيعي" الذي أصدره دالمان عام 1930.

الصورة
غوستاف دالمان (1855 – 1941)
غوستاف دالمان (1855 – 1941)

صعوبات الترجمة تعددّت، بحسب الغول الذي يعدّد منها استعمال المؤلّف مفردات وتراكيب لم تعد مستخدمة في اللغة الألمانية اليوم، وضبط أسماء المواقع التي وردت وتتبّعها، وهنا تكمن أهمّية الكتاب في توصيف القدس التي تغيّرت جغرافيتها خلال المئة سنة الأخيرة، ليس بسبب الاحتلال فحسب، وإنما نتيجة الهجرة من الريف إلى المدينة، فكثير من الجبال الجرداء التي وصفها المؤلّف تكتظّ حالياً بالأحياء السكنية، والينابيع التي تحدّث عنها لم تعد موجودة.

وفق الغول، يُركَن إلى كتابات دالمان لأمرين، هُما دقّته البالغة، ومنها ذكره ارتفاع كلّ مكان يذكره، ومقياس الضغط الذي استخدمه ودرجة الحرارة في ذلك اليوم، وكذلك في معرفته اللغة العربية ومرافقة مترجم في تنقلاته، فلم يخطئ فيها إلّا في مواضع قليلة جدّاً. ونبّه المتحدّث، أيضاً، إلى أنّ دالمان لم يأت مستشرقاً إحلالياً عنيفاً يتجاهل أهل البلاد، خلافاً لكثير من المستشرقين، حيث رأى فلسطين جزءاً من الماضي التوراتيّ أراد الحفاظ عليها، عكس رغبة المهاجرين اليهود آنذاك، إذ كان يحبّ فلسطين الماضي أكثر من فلسطين الحاضر.

الآثاري والمؤرّخ محمد مرقطن أجاب في مداخلته عن مجموعة من الأسئلة، أحدها حول منهجية دالمان الذي دخل إلى اللاهوت من باب معرفته اللغوية، و"كان يأخذ وقته. كان يراقب ويحمل دفتراً وكاميرا. كان يقوم بالمراقبة والتوثيق بشكل واقعي.. وجمع حوالي 20 ألف صورة فوتوغرافية له ولغيره، موثّقاً مشهداً ثقافياً قد تغيّر كثيراً"، مضيفاً أنّه "اعتمد على توثيق ودراسة الحياة اليومية، وعرض شامل لحياة الإنسان في فلسطين مع امتداداتها في العصور القديمة".

استخدم دالمان منهجاً متعدّد الطبقات أو عابراً للمناهج

وعرّج مرقطن على أهمّية "الديوان الفلسطيني" الذي ألّفه دالمان إلى جانب موسوعته، متمثلة بتوثيق التراث الشعبي، والشفهي منه، ودراسة اللغة واللهجات وتطوّرها عبر الزمن، والتحليل الثقافي والاجتماعي للقصائد والأغاني والعادات والتقاليد، ومساهمته في دراسة الأدب الشعبي الفلسطيني، مبيّناً أنّ دالمان قدّم في مجمل أعماله تفاصيل عن الحياة اليومية تسهم في فهم أكثر واقعية للتاريخ، وسلّط الضوء على البيئة الاجتماعية والثقاقية والاقتصادية والدينية، كما يمكن اعتبار أعماله مصادر أوّلية للباحثين، وتساهم في تطوير منهجيات البحث في التاريخ الفلسطيني سواء الميدانية أو النظرية.

بدورها، استعادت الباحثة والمترجمة نادية عبد الهادي سختيان، محاضرة للكاتب والمترجم الفلسطيني كامل العسلي (1925 - 1995) بعنوان "غوستاف دالمان وعمله الضخم حول فلسطين"، كانت قد تابعتها عام 1989، حيث توقّف عنده بوصفه مرجعية للباحثين، وتناول تسجيله التراث الفلسطيني لينتقل من جيل إلى جيل.

وتطرقت سختيان، التي تعمل على نقل الموسوعة من الألمانية إلى اللغة الإنكليزية حيث ترجمت المجلّدين الأوّل والثاني عام 2013، إلى العمق المعرفي لدى دالمان ووصفه الدقيق، ليس فقط لفلسطين، بل للأردن وسورية ولبنان. أمّا الصورة التي رسمها لفلسطين، فهي صاخبةٌ بأشغال المزارعين والحصّادين والنسّاجين والخبّازين وصانعي الخيام وبنّائي المنازل والحظائر، وساكني المدن وغيرهم، مشيرةً، كذلك، إلى سلوكه الإنساني وتحرّره من أية انحيازات دينية أو عرقية كانت عند المستشرقين في عصره.

ترجمةٌ صعبة لموسوعة كُتبت بلغةٍ ألمانية من القرن التاسع عشر

واختتمت الندوة بمداخلة الباحث والكاتب صقر أبو فخر، استهلّها بحديثه: "لا أجازف بالكلام إذا قلتُ إنّ هذه الموسوعة هي أفضل كتاب عربي عن فلسطين صدر منذ أربعين سنة بالتمام، أي منذ أصدر المؤرّخ الفلسطيني الراحل أنيس الصايغ 'الموسوعة الفلسطينية' سنة 1984، وفي عشرة أجزاء أيضاً"، معتبراً موسوعة دالمان كنزاً تاريخياً وجغرافياً واجتماعياً، ووصفاً بصرياً باهراً لمدينة القدس في مطلع القرن العشرين تعجر العين الثاقبة أحياناً عن نقل مشاهدها.

وأضاف: "هذه الموسوعة إنّما هي ذاكرة شاملة للمكان الفلسطيني؛ تاريخ المكان وآثار المكان وتاريخ السكّان ولغتهم وحكاياتهم وخرافاتهم وتقاليدهم وأغانيهم وأمثالهم وطعامهم ولباسهم وبيوتهم ومواسمهم وأعيادهم وألعابهم، وحتى الحزازير وتهويدة الأمّ لابنها كي ينام". كما أوضح أنّ دالمان استخدم منهجاً متعدّد الطبقات أو عابراً للمناهج كالآثار والتاريخ بما في ذلك التاريخ اللاهوتي والأنثروبولوجيا والطبوغرافيا واللغة السريانية وكذلك اللغة العبرية، وأكّد في هذا السياق أنّ لغة السيّد المسيح كانت الآرامية وليست العبرية، وبهذه العدّة المعرفية تمكّن من أن يعيد بناء المشهد الطبيعي لفلسطين على تلك العواميد العلمية والمعلومات الصحيحة الموثّقة والموثوقة.

وكانت وزيرة الثقافة هيفاء النجار قد ألقت كلمة افتتاحية في الندوة التي قدّمتها وأدارتها وزيرة السياحة والآثار السابقة مها الخطيب، التي لفتت إلى أنّ الموسوعة تمثّل وثيقة فريدة تاريخية وأنثروبولوجية تسجيلية وتحليلية تتناول فلسطين بحضارتها وتاريخها وتراثها ومعالمها وأرضها وشعبها، وفيها دراسة تفصيلية لمدينة القدس ومحيطها الطبيعي والبشري بمنهجية علمية رفيعة. هذا الكتاب يتكوّن من ثمانية أجزاء، لكنه صدر بتسعة مجلّدات، وارتأى "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" أن يرفد هذه المجلّدات التسعة بكتاب دالمان عن القدس، فأصبح مجموعها عشرة.

يُشار إلى أن نقل الموسوعة شاركت فيه مجموعة من المترجمين الذين اعتنوا بمراجعتها وتدقيقها، وهُم: محمد أبو زيد (المترجم الرئيسي)، وعمر الغول، وفيوليت الراهب، ومتري الراهب، وجوزف حرب. وتولّى عملية التحرير وضبط المصطلحات وتدقيق أسماء الأماكن والمواقع واللهجات المحلّية صقر أبو فخر، فيما أنجز قسم التحرير في "المركز العربي للأبحاث" الفهارس العامّة (الأماكن والأعلام والجماعات)، فضلاً عن التوثيق.
 

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون