1
الذين رحلوا، تركوا آثارهم على صفحة السماء،
راوغوا ذرّات الرمال في البيد والمفازات.
إنْ نظرتَ إلى أعلى، تر النجم يلمع، القمر ينير،
ودرباً يلوب بأنفاسه على مجاهل وغيابات شتّى.
2
لو رفعت قبضتك عالياً وضربت السماء، هل تراها تنزف أو تسمعها تئنّ؟
ستكسرُ أصابعك السكينةُ، مثلما يكسر الصقر الريحَ بجناحيه.
النظر في النجوم والكواكب لا يغيّر شأن حالٍ ولا حال شأن.
النظرُ فيها كالنظر إلى فقاعة هواء في دواة حبر،
إن رججتها سقط سقفها وذابت في الظلمات.
3
الجاهل من يقف على الطرقات صارخاً وضاحكا وباكياً!
الفاصلة الكبرى أن ترى ما لا يرى غيرك.
ها أنت على الطريق، فإلى أين أنت ماض؟
ماذا تختار عدّة لك في سفرك القريب وسفرك البعيد؟
كيف ترى نفسك وأنت في الظلمات؟!
4
العالم إصبع بلا ظفر، وبئر بلا دلو.
لتطمئنَّ نفسك: كن بين خطّي حياتَين، متوازيين،
ضع يدكَ على هذا ويدكَ الأخرى على ذاك،
سرْ تتبعك الريح أو تتقّدمك،
تتبعك الكائنات أو تتقدّمك،
سيّان هذا وذاك!
5
الشجرة دخان حكايات قوافل تجوب الصحاري.
الشجرة صيف تعثّر في رداء ظهيرة وحشيّة.
الشجرة حجر دوّرتهُ الريح.
الشجرة تظهرُ ما نهبتْ الشمسُ من ظلالها.
الشجرة تخفي تحت التراب أحزان الكائنات وأشجانها.
الشجرة بريّة تخرج من صلب برّيّة.
الشجرة قوارب صيد على ظهور أسماك مذعورة.
الشجرة مفتاحٌ، حلقته في قرن ثور.
الشجرة تنّور يمور حين يدنو منه طير جارح أو صيصة ديك.
6
لا أعرف
كيف يتكلّم الحزن،
كيف يترنّح بعبرته الألم
كيف ينأى الضحك في ثنايا الغياب الكبير
لكني أعرف
أنّ الدم حبر الغالب والمغلوب
أنّ الموت يأتي بوجوه كثيرة
أنّ الصمت ليس أكثر من جذر عشبة متعفّن
أنّ بقايا الروح ما زالت تبحث عن جسدها
أنّ النهار ضلالة عظيمة
أنّ الطريق أوّله حيرة وآخره وهم!
7
في ثنية صقيع هذه البلاد الفاسدة:
يختبئ الصباح القديم الجديد،
تفوح من شفة الفنجان رائحة الزعتر البرّي،
يتجعّد الضوء على يدِ النهار الكسول،
يغتبط الزقاق الضيّق بضحكات التلاميذ،
وهذه السماء البعيدة التي تتشبّع بدفء البيوت الفقيرة،
وحيدة كجدار روماني يطلّ من فوق كثيب رمل في ظاهر مدينة جرمة.
8
أبصارٌ مشدودة إلى أسلاك وصرخات تتساقط من جروح نازفة.
دخان عقيم تتمايل في ذيله قبّعات جنود ونياشين برّاقة.
حياة فقدت معصم حارسها تترنّح فوق المباني المهدّمة.
هذه نهاية وقتٍ يضجّ بأصوات القتلى.
9
تسقطُ الأكاذيب من فم الملك تحت أقدام الجرحى.
يجلس الرئيس في قصره يحيط به القادة واللصوص.
يقسم وزير الإعلام أمام سيّده أن الحقائب لم تكن مملوءة بالدولار.
يدخل المغنّون والشعراء على الحاكم المتبجّح بجرده الأبيض الناصع.
مثلما يدك بصمة حياتك، تخبر بمن أنت وما تفعل،
كذلك الحولي (الجَرْد) يخبر عنك الكثير، قطعة صوف طويلة، مفتوحة
إن مددتها فهي صحراء كبرى
وإن طويتها فهي الكآبة والفقر والألم والجهل.
10
من طبيعة الأشياء أن:
يتناثر الرذاذ في الهواء،
تتناثر الضحكات في البيوت،
تتناثر الخطوات في الشوارع،
يتناثر ألم المظلوم في الأفئدة والقلوب.
11
ما تهدّمَ من صداقات رحمة بها علينا أن نضعها في خزائن العتمة،
أمّا الذين بقوا بعد الرحيل فقد صاروا أيدي تلوّح في الهواء فحسب.
علينا أن ننزل المنحدر أو نجلس تحت شجرة السرول عند منعطف المقبرة،
فأصوات الذين كنّا نعرفهم أخذتها فاصلة الفراق والخوف.
12
شجرة جيلنا صارت تسقط أوراقها واحدة واحدة.
أين هي الأوقات التي كنّا فيها نقطع شوارع طرابلس مهمومين بمعاناة الشعوب؟
تحت برج الساعة وقفنا كثيراً أمام بائعي الباسطي والحليب باللوز ضاحكين متخاصمين
منّا من كان ناصريّا ومنّا من كان ماركسيّا ومنّا من كان لا منتمياً
غير مدركين أنّ باعة سوق النجّارة كانوا من البروليتاريا المسحوقة.
13
تنطلق الرصاصة باردة تثقب الجسد.
لا تشبع الكراهية ولا يشبع المقتول بها.
تنطلق الصرخة حادة تثقب الفضاء.
لا يشبع الخوف ولا تشبع الشجاعة.
14
ما لنا لا نرى روح الشجرة في ظلّها،
ما لنا لا نرى روح السيّدة في اهتزاز قرطها،
أليست يد الشمس كبيرة والنهار أرجوحة الغائبين!
15
ليس سهلاً تشريح القهر
فالحزن فاض في العيون
الرعشة لم تفارق اليدين
والكلمات هشّمتها كراهية هائلة.
16
الزهرات التي انتظرت الربيع،
أخبروها أنها لم تعد صالحة للحياة،
أخذوها إلى ساحة القرية،
جردوها من ثيابها وأطلقوا عليها وابلاً من الرصاص.
17
حين يتصدّع قلب الأرض،
تهرع أمواج البحر إليه، تمدّ حوافّها إلى أعلى
وإلى أعلى ترتفع بنايات، وأديرة ومساجد، وأرواح.
18
ضع كفّكَ أعلى الصدر قليلاً،
هناك حيث تتسارع النبضات وتخبو ظلال الذكريات.
لا حاجة لتعليق جرس في أعلى النافذة،
لقد دخلت أصوات الكائنات كلّها.
19
هذه ليست لطخات طين لزج،
ولا كدمات حجارة ألقت بها العاصفة.
هذه تاريخ طويل عفن قاسٍ من القهر.
20
سوف ننتظر مجيء الليل ونهرب،
علامته نسيم باردٌ يلمس الوجه،
وصوت خرير ماءٍ يسيل في الأقاصي.
21
هل تعلم كيف تكون بعيداً وأنت في الظل؟
هل تعلم كيف تكون قريباً وأنت في الظل؟
أن تكون الظلّ وظلّ الظلّ.
22
حسبها نفخة واحدة تطفئ ضوء شمعة،
حسبها انحناءة واحدة تشقّ جناح فراشة.
هكذا يضع النهار صدره على صدر الليل.
23
قد يتّسع قدر السيّدة لمطر يهطل على مهل.
قد تنساب في جدول الحديقة أغنية العاشق.
كان على هذه السرير أن يحمل كلّ هذه الأثقال ولا يتعب!
24
لقلق يقف وحيداً على حاشية الماء هناك،
زورق مقلوب على رمل الشطّ يحنّ إلى مجدافيه.
قطّ يتبع رائحة سمكٍ مقتول صورة رأسه تنعكس على سطح الماء.
25
شِرِبْ شِرِبْ شِرِبْ هذا ما يقوله جدجد الليل.
الربوة القريبة تسمع والشجرة القريبة تسمع.
شِرِبْ شِرِبْ شِرِبْ يظهر رأسه الجدجدُ من تحت حجر أملس.
26
لم تشأ الريح أن تترك الطائر على شجرة الصنوبر،
الشمس الساجدة في أقصى الغرب اقتنصتْ اللقطة الأخيرة.
لماذا البئر عميقة إلى هذا الحدّ؟ يهمس الطائر لنفسه.
27
لا طائرات تأتي لهذه المدينة ولا القطارات،
فقط تأتي الحرائق والقنابل والصواريخ
بعد أن يغادر الناس على عربات تجرّها الحمير والبغال.
28
حروف الكلمات لا تقع على الأرض مثل الأزهار،
قد تجد فماً تسكنه أو يداً تسافر معها إلى وجعٍ آخر.
لا نفع من أن تسدّ أذنيك على كلّ هذا الأنين!
* شاعر من ليبيا