إبادة موازية

07 فبراير 2024
طفلة فلسطينية إثر إصابتها جرّاء غارة إسرائيلية على رفح، كانون الثاني/ديسمبر الماضي (Getty)
+ الخط -

الرأسمالية في آخر دوراتها استبدلت الواقعي بالرقمي. وعليه، ما عادت ضروريّةً العودة إلى أصل الأشياء، ولا حتّى إلى مسمّياتها الكلاسيكية. كل شيء سائلٌ ويتدفّق عبر الشاشة فقط، حتّى أنّ الأنهار جفّت، ولم تعد صنو الماء، أو حتّى مرايا له. النقاء والصفاء والجمال، دوالّ بلا مدلولات.

الرأسمالية، أثخنت البشر الملوّنين، بالتوازي مع إثخانها للغتها نفسها ولبشرها البيض أنفسهم. واليوم، كلُّ العالم بات بلا لغات، لأنه فقير إلى الينابيع. حتّى الإله العمودي، أُزيح على جنب، ولم يعد كتاباً مهمّاً بما فيه الكفاية، منذ قرنين على الأقل، ولهذا هجره الناس في الغرب، وانتهى زمن أن يكون له ذلك التأثير الكافي لتجديد الميتافيزيقا.

لقد غدت عظام تلك الميتافيزيقا القديمة مكاحل، بعد سيطرة شركة "ميتا" على عقول البشر. والآن، كل خوفي، بعد فقدان الجليل والجميل معاً، على خسارة حائطنا الأخير: ملكوت الشعْر. صار الشعر نوافل، وصار اللسان يرتعش حين يباغته السؤال: هل ما زال من الممكن العثور على صوت أصيلٍ وطموح بما يكفي لتأليف قصائد حول الأسئلة الكبرى التي يعود إليها البشر دائماً؟

زمان، كنّا قد عشنا هذا بكلّ حواسنا. كان العالم اثنين: خارجياً وداخلياً. وبعد تطوّر البشرية، انتقل الخارجي إلى داخلنا، وامتزجا في سبيكةٍ واحدة، ومن ذلك الامتزاج وُلدت جميع الحضارات والفنون. اليوم غدا العالم بنسختيه مفقوداً. لم تعد ثمة عوالم في داخلنا، فكيف على الأقل، ستُنتَج الفنون؟

■ ■ ■

صحف أوروبا الكبرى، من إسبانيا إلى أيسلندا، تفعل أكثر بكثير من حذف الحقائق. إنّها تموّه المصطلحات وتزيّف جوهر اللغة، فتضع كل شيء يخصّنا، في عكس موضعه: في المكان القاتل.

إبادة على البشر والحجر والشجر تجري في الميدان، تقابلها وتوازيها وتزامنها وتتطابق معها إبادةٌ على صعيد التوصيف والتحليل والإخبار اللغوي. فليس ما نقرأ هنا سوى دسيسة مع إيماءات لأبطال العدو الخارقين و"الإنسانيّين". وليس ما نقرأ هنا إلا ما أجاز نشره الرقيبُ العسكري لجيش الاحتلال، هناك.

أي إنَّ حال هذه الصحف، كحال الصحف العبرية هناك، مع فارق ضئيل من رتوش تجميل، لزوم اختلاف القرّاء. بعد دخول الشهر الثالث من فصول المجزرة، كففتُ عن المطالعة، حفاظاً على بقايا صحة، وركّزت على منابر اليسار الفقيرة، فعلى الرغم من شوائب بعض أقلامها، مثل مساواة حركة حماس بقاتل شعبها، وشيوع النزعة الإنسانية فيها بدل السياسية، وعلى الرغم من قيامها بمراجعة غير محترمة لبعض حلقات القرن العشرين، إلا أنّها أهون، نوعاً ما.

إن بعض اليسار الأوروبي، من غير التروتسكيين (هؤلاء انقلبوا إلى صهاينة صحاح وأقحاح تماماً)، لا يعرف بعدُ مقدار الأهوال التي يستطيع عدونا ما فوق النازي اقترافها ضد مدنيّينا العزّل، تماماً مثلما لا يعرف هؤلاء بعد، ما يحدث للكبد عند الإقلاع عن الكحول، أو ما هي آثار الفيروس الإرهابي السحيق المُضَمَّن في الحمض النووي للفكر الصهيوني.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون