عَكف المُستشرقون الأوائل على صِناعة مَعاجمَ حديثةٍ للضّاد، لتَرتيب الكلمات فيها وَفقَ المناهج العصريّة، ولم يتهيّبوا الخوض في مُعضِل موادّها ومجاهيل شواهِدها وأسرار ترتيبها، رغم وعورتها. ومن أوائل مَن خاضوا غمرة هذا الميدان الألمانيّ أوغست فيشر (1865 - 1949)، الذي صاغ باكورة قاموسٍ تأريخيّ وتأثيليّ للضاد، بعد أن كتب مُقدّمة نظريّة مُطوّلةً ومفيدة، في تتويجٍ للمجهودات التي ابتدأها، قَبله بسنواتٍ قليلة المستشرق الهولندي رينهارت دوزي (1820 - 1883) في كتاب "تكملة المعاجم العربيّة".
قصّة "مُعجم فيشر" هي قصّة أكبر عمليّة هَدْر وتَبديد في تاريخ المعاجم العربيّة، ولا بدّ أن تُروى للأجيال اعتِبارًا وعجبًا: ابتدأت الحكاية سَنَة 1880 حين حَلَم دوزي، في تقديم "تكملته"، بأن يُصدرَ المختصّون معجمًا تاريخيًّا يرصد جذور الكلمات وظهور معانيها في النّصوص الأصليّة مع تتبّع تحوّلاتها عبر الزمن وفي المُدوّنات المختلفة.
التقَط فيشر هذه الإشارة وناقَشها مع زملائه سَنَة 1907، إبّان "مؤتمر الفيلولوجيّين الألمان" بمدينة بازل السويسرية، ثم أعاد طرحها في السّنة التي تلتها خلال "المؤتمر الدّولي للمستشرقين" في كوبنهاغن، واستعادها ثالثةً بـ"مُؤتمر أثينا" سنة 1912، وشكّلت محاضر جلسات هذه المؤتمرات خطّة العَمل التي سار عليها من 1913 إلى 1939، حيث كان فيشر يقضي الفترات الشتويّة في القاهرة، يجمع المداخلَ ويرتّب المعاني ويَعضدها بالشّواهد.
لم تُطبع من آلاف الأوراق التي حرّرها إلّا ستّون صفحة
في المُقدّمة، تطرّق المؤلّف إلى شرعيّة الاحتجاج بالقرآن وإلى الجَدل القائم حول فصاحة الحديث النبويّ وطُرق روايته وجمعه، منتهيًا إلى أهميّة المنظوم والمنثور من كلام العرب. وفيها استعرض انتقاداته للمعاجم العربيّة القديمة، مثل "القاموس المحيط" للفيروز آبادي و"المُحكَم" لابن سيده و"لسان العرب" لابن منظور، التي اعتبر أنّها تركّز على الفصيح المقبول ضمن نظرة معياريّة، وأنها تَفتقر إلى بروتوكول تعريفيّ واضحٍ مُطّرد، وتَغيب عنها بعض التحديدات الضروريّة، التي تجعل من الشرح متكاملاً مفيدًا، وقد حَصر هذه التحديدات لكلّ مُفردة وتركيب في سبع عمليات رئيسة، هي: التاريخيّة، والاشتقاقيّة، والتصريفيّة، والتعبيريّة، والنحويّة، والبيانيّة، والأسلوبيّة.
واستعان فيشر في تحديد هذه الخصائص بالمصادر العربيّة القديمة، كما استأنس بما كَتَبه أساتذتُه من المُعجميّين مثل دوزي، وفليشر، أستاذه المباشر، وتوربيكه، وغولدزيهير الذي اشتَغل على "معاني القرآن". واستمرّ العمل منتظمًا بعد أن أقرّه وتبنّاه "مجمع اللغة العربية بالقاهرة"، حتى سنة 1939، مُستعينًا بفريق وفيٍّ من المساعدين العرب والألمان، مثل جونسون بيدرسون وجان لويس أخنوخ (مصريّ من منفلوط) ومنير حمدي (من القاهرة) وآماليا روندبرخ.
وفي تلك الجذاذات، كان يَقرن المفردات بشواهدها، إيمانًا منه بضرورة ربط المعاني بالتوارد الفعليّ، لا بتأويلات بَعدِيّة، فأكبّ على الأبيات الثابتة من الشّعر الجاهليّ، ولا نَنسى أنّ هذا العملَ أنجز في عزّ حملة التشكيك في هذا الشعر، التي قادها المستشرق الإنكليزي مارغوليوث (1858 - 1940)، وتَبعه فيها طه حسين في كتابه عن "الشعر الجاهلي" (1926). كما استمدّها من لغة القرآن والحديث النبويّ والنثر التاريخيّ، ولا سيما ذاك الذي حبّره ابن جرير الطّبري في "تاريخه"، فضلاً عن لُغة الشّعر الأمويّ.
فالمُدوّنة التي اشتغل عليها هي العربية الكلاسيكية، بالمعنى التي أطلقه ريجيس بلاشير، أيْ: العربيّة الفصحى التي امتدّت إلى حُدود القرن الثالث للهجرة، وقد تحوّلت إلى مِعيار الفصاحة. إلا أنّه رفض الاعتماد فقط على المعاجم العربيّة لأنها أقصَت الكثيرَ من المعاني والكلمات، معتبراً إياها منحرفة عن سمْتِ البلاغة، ومن هنا جاء تأكيده على استقاء الموادّ اللغويّة من الآثار والنّقوش والأشعار الخاملة، دون إصدار أيّ حكمٍ قيَمي عليها.
وعليه، تكمن أصالة هذا المُعجم في اعتماده التامّ على الشواهد واستخراج الدلالات من السياقات الفعليّة التي وردت فيها الكلمات، وليس من "الإسقاطات" البعديّة التي ألّفَها المعجميّون العرب على مرّ التاريخ، متأثّرين بمفاهيم غير معجميّة، مثل فصاحة الكَلم، مقياسًا لاعتبارها ممّا يستحقّ الجَمعَ والحفظ والاستخدام، ومثل واجب السكوت، في المقابل، على المفردات الخاطِئة والنابية والمتقادمة أو المنحدرة من اللهجات والاقتراض، وكلّها ممّا عزفت تلك المَعجمات "الرّسميّة" العالِمة عن إعطائها حقّ المُواطَنة.
وتقوم منهجيّته على تقديم شروحٍ للمعاني بِاللغتَيْن الفرنسيّة والإنكليزيّة. وعِلة اعتماده هاتيْن اللغتَيْن واضحة، فقد كانت الفرنسيّة لغة المُستعمرات العَربيّة ولسان "العِلم" الذي به يتكلّم جلُّ المستشرقين، وفيه صيغت أحسن المعاجم المُزدوجة، مثل معجمَي كازيمرسكي ودوزي. وأمّا الإنكليزيّة، فمن أجل ضَمان أوسع انتشارٍ لكتابه هذا، المُوجّه إلى جمهور المثقّفين في العالَم بأسره. وكانت نتيجة هذا العمل آلاف الجذاذات، التي لم ير النّورَ منها سوى الجزء الأول فقط، والذي لا يتضمّن، مع الأسف الشديد، سوى ستّين صفحة فحسب، انتهت إلى جذر "أبد"، وتبدّد ما سواهُ في مجاهل النسيان.
في التنقيب عن المعجم تكريمٌ للغويين مصريّين ساهموا فيه
وبما أنّ فيشر كان من مؤسّسي "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة، وهو الذي أقرّ هذا المشروع ووضع رهنَ إشاراته مساعدين، فقد استودع تلك الجذاذات في المجمع، لكنّها ضاعت بين المَجمع المصريّ وبين ألمانيا، ولا سيما عندما تحوّل مقرّه من شارع قصر العيني إلى شارع مراد بالجيزة، ولم تبقَ إلّا ورقات صوّرَتها "جامعة توبنغن". وهكذا تبدّدت جهودُ عقودٍ كاملة ومعلومات وثيقة، وهي من أكبر الخسائر التي منيَ بها تاريخ المعجمات عندنا.
لكن، لا يأسَ مع الحياة؛ أسمح لنفسي بحُلم لذيذ: أن يسمّي "معجم الدوحة التاريخيّ" موظّفًا في مهمّة دقيقة لتعقّب هذه الجُذاذات وتصويرها ونقل محتوياتها، لأنّ ما فيها نَفيسٌ، وإنْ تجاوَزه الزمن، وليس هذا التعاون بعزيز بين المؤسسات الدوليّة. ونرجو ألّا يَضيع هذا الحلم سدًى في دواليب الإدارات وعبث المراسلات، إذ لا بدّ لهذا المجهود من إعادة تأهيلٍ وتنقيب، لأنه اللبنة الأولى لمُعجم الضاد التاريخيّ، وقد أُنجز بأسلوب علميّ، يعتمد نصوص اللغة وشواهدها، ثم لأنه نتاج تضافر جهود أسهم فيها الكثير من البحّاثة العَرب المصريين المغمورين تمامًا.
ولا شكّ أنّ مهامّ قراءة المَخطوطات القديمة والتنقيب في مظانّها والتأكّد من فَهمها، على الوجه الصحيح، كانت تُولى إليهم أكثَرَ من زملائهم الألمان. فهذا التكريم يَطالهم أيضًا وهم مَن يستحقّونه بالدّرجة الأولى، ومثل هذا يقال لمن ساعد وليام لايْن ودوزي، وعشراتٌ طواهم النّسيان.
ولا أحدَ يدري اليوم مصير هذه الورقات، فقد منعت الحرب العالمية الثانية فيشر من زيارة مِصر حتى وفاته. إلّا أنه ظلّ، وحَسب ما يروي عبد الرحمن بدوي في "موسوعة المستشرقين"، يجمع مريديه من محبّي الضاد القديمة ليَتلوَ على مسامعهم المُعلّقات السبع ويَشرحها شرحَ العارف، وذلك حتى الأيام الأخيرة من حياته التي أنافت على 84 سنة قضى جلّها في خدمة العربية وتحليل أبنيتها الفرعيّة جدًّا، مثل مقالٍ كامل عن كلمة "أيْش!".
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس