أوسكار وايلد.. أمنية أن تكون دوريان غراي

29 نوفمبر 2020
وايلد في بطاقات معايدة، دبلن (Getty)
+ الخط -

"غاية الفن أن يكشف عن نفسه وأن يُخفي شخصية الفنان"، بهذه العبارة (وهي من ترجمة لويس عوض) افتتح أوسكار وايلد (1854 - 1900) عمله الروائي "صورة دوريان غراي" (1890) ضمن مقدّمة نظرية لعلّها مع الرواية درس في القدرة على تذويب الفكر في الفن، فقد حفلت بالأفكار والتساؤلات التي تبدو بلا إجابات، ولعلّ ذلك ما دعا الكاتب إلى الخوض فيها من خلال الحكاية وليس عبر أجناس الكتابة التي يعتمدها المفكّرون عادة. لكن هل نجحت رواية وايلد في أن تخفي شخصية الفنان؟

في الواقع، يبدو الأمر مختلفاً. مختلفاً رغماً عن وايلد نفسه، فحتى إذا كانت الرواية رائعة ومتينة ويمكنها أن تخفي الفنان بالمعنى الذي يشير إليه المؤلف، إلا أن عناصر أخرى ستدفع به إلى الواجهة من جديد. من ذلك أن الكاتب الأيرلندي قد رحل في منفاه الباريسي في منتصف العقد الخامس من عمره، ولم يكن له وقتها عمل مكتمل وقريب من شخصيّته الفريدة إلا رواية "صورة دورين غراي"، أما بقية أعماله فهي قصائد وأقاصيص ومسرحيات ورسائل لم تكن تَظهر من خلالها روحه إلا في لمحات ولمعات. بالتالي فإن كل عودة إلى أوسكار وايلد باتت تقتضي عودة إلى دوريان غراي.

كما أن شخصيات العمل الرئيسية الثلاث (دوريان غراي - اللورد هنري - الرسام هولوورد) كانت تنطق بكلام شبيه بما عُرف عن وايلد بقدرته على ترتيب الألفاظ على مقاس الأفكار التي يودّ قولها. وكانت هذه الشخصيات تُدخل ضمن أيّ حديث في الشؤون العامة والعابرة قضايا كبرى في الأخلاق والفن والجمال، وهي ذات القضايا التي كانت تشغل بال وايلد.

أكثر من ذلك بدت هذه الشخصيات متباينة لكنها تصل دائماً إلى معنى من المعاني القريبة من طروحات وايلد، فكأنه ابتدع لكل وجه من وجوهه شخصية تتجادل مع بقية الشخصيات/ الوجوه؛ فكان الرسام هولوورد يعبّر عن نظرة للوجود تطرب لكل جمال وتذهب به إلى المثالية، فيما يعبّر اللورد هنري عن مرارة من العالم تتجسّد في السخرية الحادة من قيمه، أما دوريان غراي فقد كان بلا موقف محدّد من الأشياء، لا يعنيه إلا الحفاظ على جماله وحرّيته وملذّاته، وبذلك يكون على النقيض مع محاوريه بكونه لا يحمل أية نظرة ما ورائية عن الأشياء والأحداث، فهو يعيش "فن الحياة" تاركاً "حياة الفن" لغيره، وهو يجسّد فكرة الجمال ولا يقدر عقله أن يلامس جمال الفكر. ما أقدر أوسكار وايلد هنا على وضع المتناقضات في سلة واحدة!

لدى وايلد قدرة على وضع المتناقضات في سلة سرديّة واحدة

لن نجد في تاريخ الأدب الكثير من هذه العلاقات المركّبة والمُرتّبة، ففيما عدا روايات الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، معاصر وايلد، وخصوصاً روايته الأخيرة "الإخوة كارامازوف"، لا نعثرعلى أعمال كثيرة تجمع هذه القدرة على هندسة الحوارات وتحويلها إلى مرايا تلامس أعمق ما في النفوس. وقد يصح القول بأن صنعة الحوارات هذه هي المعبر نحو تحقيق معادلة بين الفكر والفن ضمن الرواية.

وبالعودة إلى المقدّمة التي وضعها وايلد لـ"صورة دوريان غراي"، فإننا نتساءل: هل أنها أثّرت في تلقّي الرواية؟ أي في حال لم يُعلمنا الروائي بالحمولة الفكرية لنصّه، هل كان سيؤثّر ذلك فينا؟

صورة دوريان غراي بالعربية - القسم الثقافي

هناك ناشرون كثر أسقطوا تلك المقدّمة في طبعات لاحقة من "صورة دورين غراي"، خصوصاً وأنها تبدو مثل شذرات ولا تؤدّي إلى فكرة بذاتها. كما أن صياغات مبسّطة للرواية لم تلتفت لها واكتفت بالحبكة وبقي لـ"صورة دوريان غراي" سحرها وألقها، وبالتالي لو أن الكاتب الأيرلندي قرّر أن يخفي هذه المقدّمة النظرية لما أنقص ذلك شيئاً من عبقريّتها، ولعل ذلك تحديداً ما فعله روائيون آخرون؛ فوراء أعمال مثل "دون كيشوت" و"الجريمة والعقاب" و"الأبله" و"المحاكمة" و"المعبد الذهبي" أفكار كتلك التي طرحها وايلد، لكن سرفانتس ودوستويفسكي وكافكا وميشيما ذوّبوها في السرد تذويباً، بحيث لم يعد هناك حاجة لقولها في نص فكري، فهي تصل القارئ عبر الحكاية دون وسيط.

تستند جودة هذه الروايات إلى عنصر آخر؛ حيث تقوم على حبكةٍ عادة ما تجمع بين العمق والبساطة في وصفة واحدة. يتوفّر ذلك في حبكة "دوريان غراي"، كما نجد فيها أيضاً جمعاً عجيباً بين تصوير الواقع كما هو في هدوئه وعاديّته، وبين الانتقال المفاجئ إلى ما هو خيالي وعجائبي. نجد أثر كل ذلك في الفصل الأول الذي يبدأ بوصف لبعض تفاصيل مرسم هولوورد قبل أن يستقبل هذا الأخير اللورد هنري الذي يذهل أمام لوحة بعينها، بورتريه دوريان غراي، ولاحقاً يظهر موضوع الصورة ويتمنى لو أنه يحافظ على جماله إلى الأبد. تقتحم هذه المعطيات العادية "معجزة"، كأنها سقطت فجأة من الميثولوجيا الإغريقية إلى رواية حديثة، فتستجيب السماء لرغبة دوريان غراي مع ترتيب بسيط: بدل أن يحمل وجهُه أثر الزمن والخيبات ستتكفّل اللوحة بذلك.

بتقلّباتها وتوتّرها الدرامي، كانت حياته تبدو كرواية

هكذا يطرح وايلد عُقدة فاوستية تُسند كل الإشكاليات التي طرحها؛ أوّلها ذلك السؤال الشهير: هل يمكن أن نحيا حياتنا كعمل فنّي؟ وأخطر من ذلك فرضية السؤال الأخلاقي: ماذا لو أن جميع خطايانا مغفورة؟ لقد حظي دوريان غراي - في حبكة وايلد - بصك على بياض كي تكون خطاياه غير مرئية على صفحة وجهه. كل خطاياه ستحمل وزرَها اللوحةُ وحدها في المخزن الذي يخفيها فيه دوريان غراي ليكمل حياته بنفس الصورة النقية. أليس ذلك مطمح إنسان العلاقات الاجتماعية في كل عصر؟

في مدوّنة وايلد، لن يناظر هذه الرواية اليتيمة إلا سيرة حياته إذا اعتبرناها هي الأخرى رواية، ولنا أن نفعل ذلك؛ فهي مليئة بالتقلّبات والتوتّر الدرامي، في انتقالات عجيبة من الأمجاد الاجتماعية والأدبية إلى الفقر والنبذ وتشويه السمعة، لتبدو شخصيّتها ضمن هذه "الرواية"، سيرة حياته، وقد بُنيت بعناية أدبية شديدة لعلّها نفس العناية التي وفّرها وايلد وهو يصوغ دوريان غراي. ولا ندري كم كان وايلد يتمنّى أن يكون دوريان غراي، فلم يحظ مثله بـ"معجزة" كي يغفر له المجتمع خطاياه طول الوقت. وربما علينا أن ننتبه إلى أن كلا الشخصيّتين - أوسكار وايلد ودوريان غراي - وصلتا إلى نهاية مأساوية؛ من لا يذبحه سكّين المجتمع يطعنه خنجر "الضمير" في مقتل.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خارج الصورة

كثيراً ما يُختصر أوسكار وايلد عربياً في روايته "صورة دوريان غراي"، وتظل بقية أعماله غير معروفة أو غير معترف بأصالتها إلا لدى من يعرف صداها في الثقافة الأنكلوسكسونية. تتنوّع بقية أعمال وايلد بين الشعر، والمسرح وأشهر أعماله ضمنه مسرحية "سالومي"، وأدب الرسالة وأبرزها "من الأعماق"، أمّا الشكل الأدبي الذي أنتج فيه معظم كتاباته فهو القصة، ومن أبرز نصوصه ضمنها: "جريمة اللورد سافيل" و"العندليب والوردة".

دلالات
المساهمون