أوديب العربي

02 سبتمبر 2022
محمد المفتي/ سورية
+ الخط -

من الصعب أن نعثر في الرواية العربية على شخصية مستقلّة تستطيع أن تحقّق حضوراً خارج النص. هاملت شكسبير مثلاً يُمكن الاستشهاد به كنموذج، أو كنمط من التفكير والموقف والسلوك، لا تُجاه قضية الانتقام والشرف وحسب، بل تُجاه قضية الإنسان وموقفه من الحياة عامة. التردّد والانكفاء والعَجز عن الفعل. وعلى الرغم من وجود الآلاف من طراز الملك لير في حياتنا، أيّ من أولئك الآباء الذين غدر بهم أبناؤُهم، أو تخلَّوا عنهم، فإنّ الملك لير الشكسبيري هو النموذج الذي يُقاس عليه في قضيّة الآباء والأبناء.

والطريف أن يكون علم النفس قد احتاج إلى الشخصية الأدبية كي يحاول فهم الشخصية الإنسانية، وتحليل مطالبها، أو لاوعيها: أوديب، وهاملت، وعطيل، وأنتيغون، وفاوست وإليكترا. ويمكن لبناء فرويد أن يفقد كثيراً من أهمّيته دون أوديب أو إليكترا مثلاً، ثمّة العشرات من الأسماء التي جعلت علم النفس سعيداً، وممتلئاً بالنتائج والتحليلات.

وقد قدّم جورج طرابيشي في الأدب العربي محاولات نقدية لحقن علم النفس بشخصيّات روائية عربية؛ دون أن يُفلح في خلق النماذج القابلة للتعميم. والسبب هو أنه نظر إليهم بوصفهم مرضىً، لا كاستجابات لعوامل خارجة عن إرادتهم، فأحبط مشروعه النقدي نفسه، وهو ما لم يفعله فرويد مع أوديب مثلاً، إذ حوّله إلى نموذج نفسي صالح للتعميم. واللّافت أنّ عنوان أحد كتب طرابيشي هو "عُقدة أوديب في الرواية العربية". أي أنّ الشخصية الأدبية في التراث اليوناني، تُصبح مقياسا للشخصيات الأدبية في الرواية العربية قاطبة، بعد أن كانت قد أصبحت مقياساً لعُقدة نفسية محدّدة لدى البشر الأحياء.

طبيعة الفرد وشكل تمرّده، أم قيود المجتمع وقوّة حضورها؟

وقد يكون اكتشاف الشخصيات مرتبطاً بظهور قيمة الفرد، أو دوره، في المجتمع، وقد ظلّ هاملت مغموراً، مع صاحبه شكسبير إلى حين رسوخ النظام الرأسمالي، واختفى أوديب نفسُه من التاريخ الأدبي إلى حين مجيءِ فرويد ونظرياته.
  
وفي الغالب فإنّ مشكلة الرواية العربية متضمَّنة في الواقع العربي، واقع عانى طويلاً من غياب الحرية، حرّية الفعل والتفكير بعيداً عن أيّ مرجعٍ فكري، أو مذهبي، أو حزبي، أو عقائدي، أو ديني، أو طائفي، أو سياسي، ولعلّ هذا التعداد نفسه، يقدّم صورة عن حجم القيود التي تكبّل إمكانية استقلال الشخصية في اتخاذ القرار، أو في ترك اللاوعي حرّاً أيضاً في اتخاذ القرار.

يحتمل أن يكون سعيد مهران، بطل رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، الشخصية الأكثر شهرة في الرواية العربية، من حيث تمرّدها على المجتمع والسلطة، وهو المثال العربي الصريح على تحطّم إرادة الفرد في المواجهة مع قوى المجتمع. ولكنّ سعيد مهران ظلّ مجهولاً تقريباً كنمط، على الرغم من انتقاله إلى السينما، ولم يجد ورثةً حقيقيّين يستطيعون استكمال التمرّد، أو المواقف الحدّية التي اتّخذها، على الرغم من أنه يمثّل عشرات آلاف الشبان العرب الذين تعرضوا للخديعة، وخسروا شبابهم بسبب أشخاص من نمط رؤوف علوان، كما لم يستكمل النمط في تاريخ الرواية. والبحث مستمرّ في الأسباب، طبيعة الفرد وشكل تمرّده، أم قيود المجتمع وقوّة حضورها؟


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون