في الأحاديث والأخبار التي تُتناقل بين البيوت، يُكتَفى بعرضِ مصير البشر عرضاً اختزالياً، يقتصرُ على الخبر مع وصفٍ مختصر. الأدب بدوره لا يعرضُ مصير أبطالهِ عرضاً اختزالياً، وإنّما يقرأ كلّ حدثٍ، مهما بدا طفيفاً من داخلهِ، ومن ثمّ ينتقل إلى أثره فيما يحيط بهِ وفيما بُني عليه.
لربما كان الموت انتحاراً أكثر الأخبار التي يُعرّضها منطق الحياة إلى الاختزال، لكنهُ في الأدب حدث مُرّكب، إذ يعيدُ الفنّ الانتحار، مثلما يعيدُ الموتَ بصورةٍ عامّة، إلى نظام أشمل وأكثر تعقيداً، وهو مصيرُ الإنسان؛ خفوتهُ وعجزهُ ونداءاتهُ الشتّى من أجل الخلاص. الانتحار ضربٌ من ضروب النهاية التي تبترُ وجودَ المرء، غير أنّ حكاية المُنتَحِر تشعُّ بين من بقي. أمّا بالنسبة إلى الأدب، فالحياة بذاتها هي الأنشودة التي يُغَنّيها الإنسان، بلحظاتها الأليمة أو المفرحة، ولا يتعدّى الانتحار أن يكون حدثاً احتمالياً قد لا يتمّ على الرغم من الإحساس بحتمية وقوعهِ، يُمكن أن يجنّب الكاتب شخصياته أن ينتحروا، غير أنّ من يصل إلى تلك الذروة النفسية النادرة التي من المحتمل أن يُفارق بعدها الحياة؛ تتمثّلُ بطولته في أن يعيشَ على نحو عادي مجدّداً.
في مسرحية يوريبيديس، "هرقل مجنوناً"، وبعد عودة هرقل من العالم السفلي وقهره الموت وإنجازهِ البطولات التي أصبحت مثلاً على مرِّ الأزمان، ينقذ أهله أخيراً من الخوف والمهانة ويحرّرهم من ليكوس طاغية طيبة. ثمّ في نوبة جنونٍ يقتل زوجته ميجارا وأولادها بعدما أنقذهم، فيكون الاختبار الأقسى بالنسبة إليهِ، لا الانتحار، الذي منعه عنه صديقهُ ملك أثينا، فالانتحار أمرٌ هَيّن على من خبرِ الموت واقترب منهُ، وإنّما يكون الاختبار الأقسى هو الاستمرار في العيش، والتفكيرُ بالأمل من جديد.
بعد نجاته، يدرك الإنسان في كلّ تجربة أنّ عليه أن يعيش
كذلك في مسرحية صموئيل بيكيت "في انتظار غودو"، لا يستطيع كلّ من استرجون وفلاديمير، بطلي المسرحية، أن ينتحرا، إنّهما يضعان الحِبال على الشجرة، من غير أن يستطيعا شَنق نفسيهما. بل إنّهما يستمرّان في العيش مقيّدَين بالانتظار، بالعبثِ واللا جدوى. يخبرنا الأدب عبر هذين المثالين المؤسِّسين أنّ اختبار الإنسان هو عيشهُ؛ رؤيتهُ أبناءَه مقتولين بيديهِ، من دون أن يقوى على قتل نفسهِ. رؤيتهُ حياتَه تُهدرَ في زمنٍ يمضي من دون أن يحمل معه سوى انتظار ما لا يأتي وما لا يحدث، من دون أن يقوى على قتل نفسهِ أيضاً. فالإنسان، ما إن يتجاوز تجربةً صعبة، ما إن ينجو، سيدرك في كلّ تجربة أنّ عليهِ أن يعيش. عندما ينظرُ من يُقدِم على الانتحار إلى العَيش، فهو ينظرُ إلى من يعيشون على أنّهم خاسرون. في المقابل، عندما ينظرُ أحدُ الذين قرّروا أن يعيشوا إلى خبر انتحار أحدهم - مختزلاً الخبر في الانتحار - فهو ينظر إلى من لقي حتفه باعتبارهِ فقد الفرصة كي يعيش على الرغم من الألم، كما أنّه سَلب من الحياة حقّها في أن تفاجئه.
لو اعتقد المرء أنّه يجابه قدرهُ، وهذا اعتقادٌ، على الرغم من استحالتهِ، إلّا أنّه اعتقادٌ محقّ. فإنّ فرصه في ذلك، فرصٌ ضائعة. إذ حتى عندما يعتقد أحدهم أنّه يواجه قدره باختزال المواجهة مع الحياة في نفيها والخروج منها، فإنّ تلك المواجهة الخاسرة هي مصيره.
يمنح الأدب قرّاءهُ تلك التجربة الذهنية غير الاختزالية عبر حكاياتٍ مليئةٍ بالعذاب ومليئةٍ بإرادة الاستمرار أيضاً، يهبهم فرصة أن يروا ما لم يجرّبوا أن يعيشوه. فالأدب يمنحهم فرصة أن يتسامحوا مع أنفسهم، وهم يتأمّلون عجز الإنسان عن حَرفِ مصيره أو مواجهته.
* كاتب من سورية