أعمال الشاعر الإسباني أنطونيو كوليناس (ليون، 1946) واحدة من أهم المغامرات الشعرية في الشعر الإسباني. لطالما كان كوليناس شاعر الواقع المتعالي، ولطالما اعتبر التأمّل وسيلة لتبصّر العالم، أي تبصّر أنَّ العالمَ والشعورَ والفكرَ نبض واحدٌ. وليس كتابه الجديد الصادر أخيراً عن "دار سيرويلا" Siruela، بعنوان "ثلاث أطروحات في التناغم"، إلا استقصاءً ذاتياً وروحانياً، يقوم به الشاعر، يوماً بعد يوم، في محاولة منه لاستعادة ذاتيّته وكينونته في ما وراء الكآبة الحديثة. تلك الكآبة التي ترى الإنسان كروح فارغة، وترى العالم كسلسلة من الشظايا غير المترابطة.
يتحدّى كوليناس في كتابه الجديد ظلمات هذا العصر ويحاول أن يجد ملاذاً في ما وراء المأساة، إنه ملاذ الشعر، تلك الأنشودة التي تقودنا إلى ما وراء الموت. في شعره يُغمغم الإنسان المعذّب، الإنسان المهزوم والمنشطر، إنسان هذا العصر. إن ثمة إمكانية للشفاء والتعافي من أمراض الألم والعدمية، وإنه يمكن الخروج إلى عالم لم يدمّر بعد.
تكاد أن تُثير الدهشة تلك المعركة اليومية التي يخوضها كوليناس، كلّ يوم، من أجل تغيير النماذج والمعايير. يرى القلق، مع ذلك يؤكّد على إمكانية الخروج من الخسائر؛ يرى العالم المتشنّج، ولكنه، مع ذلك، يُشير إلى أن المقدّس لا يزال موجوداً: في تغريدة عصفور، في شجرة صنوبر، وفي صمت الليل.
ينفض كوليناس الغبار عن تلك الرسائل القديمة التي احتقرتها الحداثة. العالم، بالنسبة له، معبّدٌ إذا كنت تعرف كيف تسير نحوه. وليست المناظر التي يراها في أثناء تجواله على ضفاف المتوسط، في شمال إسبانيا وشرق آسيا، إلا مساحات للحوار مع العالم وتعديل إيقاع ضربات القلب لكي تنسجم وتتناغم مع ضربات قلب الأشياء التي يراها. إن معركة كوليناس مع الأضداد الحديثة هي من أجل التناغم والانسجام، ولا أقصد بذلك تناغم الذات مع الحياة، وإنما مع التاريخ والثقافة بكافة أشكالها.
■ ■ ■
سرعة
السرعة سباقٌ نحو الموت
والبطء يوقفُ الزمن،
يوسّع اللحظة
وينفخُ الحياةَ تناغُماً.
■ ■ ■
صوت الريح
ما معنى صوت الريح الجَليّ والمُتناغم
بين أشجار الصنوبر؟
الضوء مكسوراً؟
مرور الوقت؟
كلّا، ليس إلّا إشاعة زمن يترسّخ لكنّنا لن نتمكّن من أن نعيش فيه،
ليس إلّا زمناً فارغاً وموسيقى،
ليس إلّا تشرُّداً أبديّاً،
ليس إلّا لا نهاية.
■ ■ ■
فينوس
نقيةً ونديّةً ترتجف نجمةُ فينوس في الأفق.
في سماء اشتدّت زُرقتها إلى درجة السواد تقريباً.
في الضوء، في ضوئها، أحاولُ أن أقرأ،
فتخرج الثواني واللحظات التي كنتُ فيها سعيداً.
شيءٌ ما في هذه النجمة،
شيءٌ في ما وراء ضوئها المُرتعش الصامت.
هناك، في الأعلى، تُوجد الحياة الحقيقية
لأن كلّ شيء حيٌّ فينا يصعد ويعلو:
الأشجار، الطيور والنظرات.
وبالعكس، كلُّ شيءٍ ميّت يسقط على الأرض:
الأوراق الجافة، الطيور المجروحة
ونظرات الإنسان المهزوم.
■ ■ ■
يقين
أحياناً نُوقن أنّنا لا نعرف شيئاً أبداً
مع ذلك لا نيأس
لأننا نعلم أنها فكرة لامعة ومُفرِِحة
لاسيّما في تلك اللحظات التي تُردّد فيها شفاهُنا:
"نعرفُ أننا لا نعرفُ شيئاً وأننا لا نرغب في معرفة أي شيء".
أحياناً يمكن أن يكون هذا اللاشيء كلّ شيء،
يمكن أن يكون هذا الفراغ نبعاً يملأ الوجود.
■ ■ ■
مطر
تُمطر الصعوبات من كلّ صوب.
ماذا أفعل؟
لقد بدأتُ بقطع الخشب والمزيد من الخشب في الغابة.
ماذا ستكون حياتي، هذا الصباح،
بلا فأس وبلا غابة؟
■ ■ ■
حياة
نُمضي حياتَنا ونحن نطرح أسئلة بائسة.
لا ندرك أنّ كلّ شيء من حولنا جواب.
نغرق في موج الأسئلة العاصفة
نجهل أو لا نرغب في رؤيةِ أجوبة الطبيعة المُستمرّة.
نادراً ما نقبل العالم كما هو:
جوابٌ فريدٌ وواسع وواضح.
■ ■ ■
تناغم
يمكن أن تكون كلمةُ تناغم إحدى أكثر الكلمات الجوهرية في الوجود.
العالم، الحياة، انسجامٌ نُجهد أنفسنا كي نعيشَه بلا تناغُم.
اتَّبعْ دورة الزمن، الفصول، التحوّلات الطبيعية
راقبْ مجرى العالم الصغير والكبير
وتكيّفْ مع هذا الوجود.
عِشْ بكمالٍ
واصبرْ عندما يصيبُك شرّ.
تجنّبْ، قدر المستطاع، اللا تناغم.
هذا هو مفتاح الوجود.
■ ■ ■
لماذا؟
ما هو أقوى أسباب الحياة؟
لا شك، أن نتنفَّس عن وعي.
التنفُّس من الأشياء القليلة التي تقودنا، بحُرّية، إلى التناغم.
لكن، في هذا التيه اليومي الذي نعيشه،
لا ندرك، عادةً، أننا نتنفَّس.
■ ■ ■
واقع
يستمرّ الشتاء. السهل أخضر، وفي وسطه شجرة لوز مُزهِرة.
كتلةٌ بيضاء كبيرة، حريق من الضوء.
فجأة، يبدأ الثلج بالسقوط. تتساقط الثلوج على شجرة اللوز المُزهرة،
يسقط الثلج على الثلج.
أحياناً لا يُمكن أن تصف ما تراه دون الوقوع في المُبالغة،
مع ذلك أحاول أن أفعل ذلك في هذه القصيدة
ولكن، أحياناً،
حتى الفن لا يستطيع أن يكتبَ الواقع.
■ ■ ■
ثقب
في بعض الأحيان المرأة ثقب تركه لنا العالم
كي نرى شكله المقدس.
جسد المرأة إلى جوارنا أو بين أيدينا
ذهبٌ طيّبٌ غامضٌ ذائب ومتصلّب،
حلم كريستاليّ.
أتراه برهاناً آخر على قدسيّة العالم؟
بطاقة
Antonio Colinas شاعر وروائي ومترجم إسباني من مواليد ليون عام 1946. حاصل على "الجائزة الوطنية للأدب في إسبانيا" عام 1982. له الكثير من الأعمال الروائية والشعرية، منها: "قصائد الأرض والدم" (1969)، و"أغانٍ من أجل موسيقى صامتة" (2014)، و"في طرق لا مرئية" (2018).