جميل أن نسمع بنجاحات مُهاجر عربي في فرنسا، وعن صعوده إلى قمّة الاعتراف الأدبي والمعرفي. جميل أن يحمل أحدهم اسماً يشبه أسماءنا، ثم تكتمل بين يديه آيات التكريم. وأن يكون له وجهٌ كوجوهنا، ويعرف ما في أوطاننا من أسرار وبهاء وخيبات، ثم يُنصَّب على رأس "الأكاديمية الفرنسية"؛ أعرق مؤسسات الثقافة في بلاد موليير.
جميل كلُّ هذا، لولا أن صعود أمين معلوف إلى القمة لا يخدم ثقافتنا العربية في شيء تقريباً، ما عدا تلك الاحتفاءات الشكلية بأصوله، وقد كانت تلك الأصول، التي يحبّ أن يسميها "بدايات"، جزءاً غير هيّن من رأسماله الأدبي الذي استثمر فيه حتى جعلوه أميناً على "خزائن" الثقافة الفرنسية، وها هو يرأس المؤسّسة التي يُعهد لها منذ 1629 أن تحمي لغة فولتير من الركود.
التمعّن في أدبه يهزّ مسار الأسطرة الذي تأخذه ثقافتنا
أخذ معلوف مقعداً في الأكاديمية عام 2011. نال ما نال من الاحتفاء، فرنسياً وعربياً، وفيما يَشهَدُ صعودُه على مثابرته في خدمة الفرنسية لم تُلمس منه رغبة في إفادة الثقافة العربية بشيء ممّا اكتسبه من مهارات خدمة لغة ما، أو من معرفة بما للمؤسسات من أدوار في ترتيب أوراق البيئة الثقافية. لم يفعل شيئاً من ذلك وهو خير العارفين بما تفتقر إليه ثقافتنا لهذا النوع من الجهود، فإن تحدّث عنها أتى حديثه إلى مقام الرثاء أقرب، إن لم يسرّب طي خطابه، تحميلاً لمسؤولية التأخُّر الحضاري للعناصر المكوّنة لشعوب المنطقة، مبيِّضاً في الأثناء وجه الغرب الذي لن يتردّد بعد ذلك في إجزاء المكافآت.
تُفارق، اليوم، صورة معلوف في الثقافة العربية صورته القديمة. لم يعد ذلك المُهاجر الذي شقّ طريقه بنجاح، أصبح مُستقرّاً في الثقافة الفرنسية، ربما أكثر من اللزوم. أصبح فرنسياً أكثر من كونه عربياً، بل ما الذي تبقّى من ملامحه العربية، ربما كونه لا يزال ويتحدّث الفرنسية محافظاً على نطق حرف R راءً لا غيناً كما يفعل الفرنسيون. هل هي العادة أم يفعل ذلك ليقول بذلك إنه لبناني، رغم مرور قرابة نصف قرن على انتقاله إلى فرنسا؟
في كلّ الأحوال، لا تُقاس المسافات المقطوعة بالحروف. بالنسبة لكاتب، تُقاس هذه المسافات بالهموم التي تسكن أدبه. فإذا كان معلوف قد بدأ مُحدّثاً الفرنسيّين عن "الحروب الصليبية كما رآها العرب" (1983) فإنه لا يُحدّثنا اليوم إلّا عن العالم كما يراه الغرب، أو كما يحبّ أن يرويه الغرب. حتى حين يحدّثنا عن أنفسنا، وهو منّا، يأتيك بعين لا تقع إلا على الغريب المزركش، ذلك أنه يعلم أنه يبيع النص لقارئ فرنسي لن يرى إلا ذلك، وإلا أغلق الكتاب ومضى في حال سبيله.
لا يُحدّثنا اليوم إلّا عن العالم كما يحبّ أن يرويه الغرب
بسبب هالة النجاحات الأُولى في فرنسا، ووصول أعماله مترجمة، بما فيها من متعة واستحضار للشرق بملامح تخلبنا نحن أيضاً، أخذ أمين معلوف مكانة اعتبارية مهمة في الثقافة العربية بدءاً من تسعينيات القرن الماضي. لكن التمعّن في أدبه أخذ يهزّ مسار الأسطرة الذي كثيراً ما تمضي فيه ثقافتنا مُسرنمة. ربما أيقظ هذه النزعة النقدية تسارُع النجاحات في فرنسا، وحين تسلّطت الأضواء أكثر على أدبه لم يعد معلوف ذلك الجسر بين شرق وغرب بسبب المقابلة بين اسمه العربي ولسانه الفرنسي، بل أصبح بالتدريج أقرب إلى الصورة الذهنية التي رسمها فرانز فانون بعبارته "بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء".
حين تسمع أمين معلوف وهو يتحدّث عن العالم العربي ستلمس نبرة عاطفية، وحزناً على اندثار الكثير ممّا لمسه في شبابه، وستقف على اطلاع واسع تغذّيه المعرفة النظرية. ودون هذا وذاك، ستجد موهبة في انتقاء العبارة ومهارة في إيصال الفكرة. لكنك لن تجد همّاً نهضوياً أو موقفاً ينتصر لقضية عادلة. وستقول: فيم توظّف هذه المعارف وتلك المواهب إلا في ذلك الصعود الشخصي المتواصل، وهو وضع بدأ بالتدريج يخلق حول شخصية أمين معلوف جدلاً في الثقافة العربية بين مُحتفين ومناهضين.
وكأنه قرّر بنفسه أن يُنهي كلّ اختلاف حوله في منطقتنا، وأن يُحرج القائلين بأن جودة الأدب قد تغفر النكران. في صيف 2016، وكان لموجة الاحتفاء العربي بمكانته العالمية بقية، ظهر أمين معلوف في قناة إسرائيلية ناطقة بالفرنسية. ذكّر البعض بمواقف قديمة له متقاربة مع وجهات النظر الصهيونية على حساب القضية الفلسطينية، وحتى اللبنانية. وأشهدَ من لا علم لهم بالماضي أي التموقعات اختار. كان يُمكنه أن يمحو باعتذار بعض ما اقترف، لكنه عاد يعمل بصمت في مقعده على نهر السين.
لن نجد عنده همّاً نهضوياً أو موقفاً ينتصر لقضية عادلة
في تلك اللحظة، انقطعت الشعرة مع الأمّة (إلا لمن أصرّ على البقاء حيث هو). ما كان مجرّد ظنّ وتخمين، أصبح يقيناً مُعلناً مُسجّلاً بالصورة والصوت. كان الطريق طويلة حقّاً حتى يسقط القناع. ولقد أوجز تعليقٌ راج وقتها على مواقع التواصل الاجتماعي، للشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، مسألة أمين معلوف ووجهها الإشكالي. قال البرغوثي: "أمين معلوف يسقط ظانّاً أنه يصعد. مبروك عليك التلفزيون الإسرائيلي".
حين أستذكر هذا المسار أطمئنّ على كون الثقافة العربية، رغم عيوبها الكثيرة، تظلّ قادرة على إنتاج وعي نقدي يُغربل، ولو بالحدّ الأدنى، ما نستهلك من مادة ثقافية. أستذكر ذلك لأنني قطعتُ المسافة ذاتها مع أمين معلوف. قطعتُ تلك المسافة الطويلة من "سمرقند" إلى "نهر السين"، كي أعرف أن النص الذي يخلب القارئ قد يخرّب وعيه أيضاً...
لا أزال أذكر سحرَ "سمرقند"، فهي واحدة من الروايات (النادرة) التي لم أقدر على تركها قبل الفراغ منها. أذكر أنني أمسكتها ذات ليلة صيف وأنا دون العشرين، ضمن عادة قراءة قليل من رواية قبل النوم، فإذا بها تمتدّ بي إلى انبلاج الفجر. لولا ذلك التنبيه الضوئي الذي أفضى للشعور بالإرهاق لم أكن لأنام، ولم يبق سوى قسط قليل من الرواية أتممته حين استيقظت. روحٌ شهرزادية كانت تسكن ذلك النص. حكاياتٌ وشخصيات وألوان ومغامرات مصهورة بعناية خيميائي أسطوري. كان ذلك انطباعاً لم يُفارقني ولكن سيعدّله فهمٌ لاحق أن النصوص لا تُقرأ معزولة عن خطابات أشمل تعبُرها مثل تيّارات الماء غير المرئية.
فعل الخبر فعله بكثيرين لا يعرفون ما في النصوص من خبايا
اختبرتُ أدبه في أعمال أُخرى فوجدتُ طرافة الفكرة وطراوة الأسلوب وطبقات بحثيّة تستند إليها الروايات. غالباً، صادفتني مقالات عبر الإنترنت لتحوّل وجهتي وتبدأ في خلخلة صورة أمين معلوف. هناك سؤال تردّد أمامي كثيراً: أي ثمن يدفع أمين معلوف في تسلّقه برج إيفل؟ وأي صورة يُنتجها عنّا أحد أشهر المؤلّفين العرب في عالم اليوم؟
بدأت أعرف أنه فيما تنهض آداب الشعوب المضطهدة بإعادة النظر في الرواية الاستعمارية لتاريخ المكان، تحت تأثير تنظيرات إدوارد سعيد وغياتري سبيفاك، يأتي أدب معلوف ليكرّسها، حتى في الرواية التي سحرتني. ثم بلغتني أصداء "سلالم الشرق" (1998) وفيها يلامس فترة ما قبل النكبة فيتناولها بوصفها مرحلة تفريط وإهمال أدى إلى ضياع الأرض، وليست قوساً فُتح ولم يُغلق بعدُ من الاغتصاب والتهجير. عرفتُ أنني لن أقرأ أدب أمين معلوف مجدّداً.
فقط، تذكرّتُ رواية "القرن الأول بعد بياتريس" حين علمتُ أن زوجتي حبلى ببنت، تلك الرواية - الأغنية التي تحتفي بالأنوثة في عالمٍ يشتغل على إهدارها بتفضيل إنجاب الذكور على الإناث. وقلت يا خسارة هذه الأفكار في مسيرة هذا الكاتب.
ما يُحزنني أكثر في حكاية صعود أمين معلوف أنه يجسّد ثمرة قرون من العناية الأُسرية بالآداب والمعارف. تلك القرابات التي تربطه بأسماء مثل المؤرّخ عيسى إسكندر المعلوف، والشعراء الإخوة فوزي وشفيق ورياض المعلوف، ووالده الشاعر والصحافي رشدي المعلوف. وكأن تركة آل معلوف قد صُبّت في ولد موهوب، موسوعي المعرفة، لكن ستنتفع الثقافة الفرنسية -وحدها- بهذا التقطير التاريخي الطويل. "هنيئاً لكم" يقول لسان حالي. ذلك هو نزيف هذه الأمة.
يصادفُ بلوغ أمين معلوف منصب "الأمين العام الدائم" لـ"الأكاديمية الفرنسية" حيناً من الدهر تعيش فيه فرنسا على وقع اهتزاز مكانتها الجيوسياسية، وفيما ينتهي الحضور العسكري، ومن ورائه الامتيازات الاقتصادية من مالي إلى النيجر، كأن بعض الأوراق تُلعب، ومنها خبرٌ بوصول لبناني على رأس أعرق مؤسسات الثقافة الفرنسية.
هل نحيّي هذا الانفتاح ونجاح سياسات الاندماج؟ أم نقف على حسن حظ فرنسا في من هاجروا إليها؟ أو على قدرتها في توظيف نعومة أدوات الهيمنة الثقافية؟ ولقد فعل الخبر فعله بكثيرين -قد لا يعرفون ما في النصوص من خبايا- فأطربهم وعادوا يتغنّون بالكاتب اللبناني الفذّ الذي شقّ طريقه صعوداً إلى أعلى هرم التكريم الفرنسي. هكذا جمع أمين معلوف نياشين فرنسا، جوائز ومناصب وأرقام مبيعات، وهكذا حوّلته فرنسا إلى نيشان جديد على صدرها.