أمل بوشارب.. الجزائر وأبعد في حبكة بوليسية

15 يونيو 2021
أمل بوشارب
+ الخط -

عبر حبكة بوليسية تعرضُ الكاتبة الجزائرية أمل بوشارب في روايتها "في البدء كانت الكلمة" ظاهرة مُتخيلة تستفيق عليها البلاد، وتتمثل بعمليات خصاءٍ غامضة لأطفال دون عمر الخامسة، ومن خلال ما يبدو أنه إطلال على عالمِ الجريمة المنظّمة، يجمع العمل خيوط الواقع الاجتماعي والسياسي في الجزائر.

في الرواية الصادرة عن "منشورات الشهاب"، وعبر 336 صفحة، تصنع بوشارب فضاءً حكائياً وتُوقِع بالقارئ في عملية إيهامٍ مُحكَم عن حكاية تلتزم قوانين الواقع، من غير أن تكون حكايةً واقعية. بناء حيّ يشبه بلدها، وتتفاعلُ فيهِ من تياراتٍ فكرية ودينية ما يتفاعل في البلدِ الذي تحرّر من الاستعمار الفرنسي، واستولت عليهِ في وقت لاحق أنظمة أمنية، كما تشكّل سنوات "العُشرية السوداء" الخلفية الدامية لحكايتها. بالتالي، يظهر الخصاء في أحد أوجههِ خصاءً سياسياً، وهو بالنظر إلى حال المرأة المعنّفةِ خصاءٌ قيميّ، تصوّر الكاتبة من خلالهِ تردي حقوق المرأة، بمحاكمتها على أساسِ "النوع". 

تستخدم الكاتبة الخصاء في دلالاتٍ عديدة، فهو - ضمنَ بلدان تشكو من دورات عنفٍ متكرّرة - استعارةٌ عن العجز، واستعارةٌ عن الذكورة التي لا تظهرُ إلا عنفاً، ولا تتجسّدُ إلا في القتلِ والجريمة، ولا تتمثّلُ إلا في قيم الخديعة والجاسوسيّة. تنتزعُ الكاتبة من عالمِ الرجال أكثرَ ما يخصّهم، وهو ما يرمز إلى "النوع"، فالخصاء يفقدهم شيئاً من تفوّقهم المزعوم. في ضوءِ ذلك، يظهر الرجال ضحايا لأنفسهم. ثمّ تظهر آثارُ سلوكهم في رسم مصائر نساءٍ تعانين من عسفِ الرجال وقهرهم.

تشكّل سنوات "العُشرية السوداء" الخلفية الدامية لحكايتها

توظف الكاتبة في حبكتها عائلة هاربة من الحرب السورية، لكنّ الحرب لا تحضرُ خالية الوفاض إلى المجتمع الذي تتحدّث عنهُ الكاتبة، بل تُحضِرُ معها قيمها، بدءاً من أوهام الخلاص الفردي، إلى تصوّرات الزيف التي تترافق مع القتل ومع الهروب، كما لو أنّ الناس يلجأون إلى تزييف حياتهم، لأنّ في داخلهم شعوراً قاسياً وواهماً، بأنّ الموت والخطف ليسا حقيقيين. وباستخدام شخصية هنادي، تتجلى قيمَ الناجين من المجزرة، إذ تحاول الفتاة السوريّة أن تندمج مع الآخرين، وفي الوقت ذاتهِ ينمو في داخلها إحساسٌ بالتفوق عليهم، يترافقُ مع إحساسٍ مريرٍ بالحظِّ العاثر. تستخدم الكاتبة أيضاً شخصية أميركية تجيء من عالمٍ ينشغل بمسائل مغايرة، من عالمٍ يبدو عالماً جديداً، وتولّده الكاتبة من تناسخِ أرواح، تنتمي إلى العالم القديم. فالمُخلِّصَة الأميركية كايلا تحمل روحَ القاتل الجزائري فاتح مترَف الذي تدور الرواية عن عائلتهِ. 

تجمعُ عائلة مترَف خيوط السرد كافةً، وتتداخل في قصة اختفاء الأب مجهول المصير - الذي اختُطِفَ من قبل جهازٍ أمني بعد اتهامهِ بإخصاء عددٍ من الأطفال في أثناء عملهِ ممرضاً، ثمّ ليتبيّن أنّه قد قُتل - صنوف التآمر كافة، بدءاً من الأخ الذي يريد أن يطرد عائلة أخيهِ، إلى الطبيب الذي تساهل في تقريرهِ عن عمل الممرض، إلى الأمن الذي يريد أن يظهر مسيطراً. إنّ فاتح مترف (المجرم/ الضحية) يمثلُ تجسيداً مثالياً للحالة التي عَلِقَت بها المجتمعات العربية؛ الجميع ضحايا لجرائم كانوا قد اقترفوها بتواطؤٍ جماعي. 

غلاف

أما  ياسمين، ابنة مترف وطالبة الطب، فتحاول الخروج عن مصيرها المكتوب لها، فتشارك في مظاهرات الحراك الجزائري (2019) لتدفع ثمن ذلك. وتتجلّى السلطة الذكورية أيّما تجلٍّ في سلوك نساء العائلة، لا رجالها. فوالدتها أرادت لها أن تعود وتعمل في المستشفى الذي طُرِدَ منهُ الأب، تعزيزاً لتفكير كيدي يورّثُ الأحقاد دائماً.

توزّع بوشارب شخصياتها على أهواء ومذاهب متفرّقة، وتظهر لقارئها شتات سبل الخلاص، وأزمات الإنسان الذي يبحث عمّن يلجأ إليهِ، عمّن ينقذهُ من القسوةِ والعنف. يبقى القاتلُ الذي يُجري عمليات الخصاء لغزاً، حتى الصفحات الأخيرة حيثُ تُنهي الكاتبة لعبة الإيهام، وتغلقُ النص على الأسئلة جميعها. والألغاز التي راحت تراكمها، ومن ثمّ تواريها وراء ألغازٍ أعقد، تكشفها للقارئ في صفحات قليلة. وينتهي التشويق الذي يمسك بالقارئ صفحة بعد أخرى، مع الضابط السابق الذي يستغل ضحايا عمليات خصاء قديمة، كي يوقع بضحايا جدد. إنّها حلقة مغلقة من الألم، تسند الكاتبة إلى الضابط عقدة تلك الحلقة القاتلة. ومن ثمّ تدفع إلى إفشالهِ، عبر تآلف الجماعة، وسعي الشخصيات إلى نيل الحقوق، الأمر الذي يستبسلون من أجل تحقيقهِ.

بلدان تحرّرت من الاستعمار واستولت عليها أنظمة أمنية

تضع بوشارب الضابط السابق في مواجهة الطبيب، وقد بدا أنّها تختار ثنائياتٍ، كلّ منها يخدم طرفاً نقيضاً، مثل العلم والجهل، الإيمان السمح والمتشدّد، الخرافة والحقائق. إضافةً إلى ثنائيات كثيرة أخرى تكشف من خلالها ذلك العالم الماضوي الذي تأسَنُ فيهِ المجتمعات، وتُهدَرُ قيمها، ويُعذّبُ ناسها. إنّها مجتمعات تريدُ أن تتحرّر من غير أن تعرف طريقاً لذلك، إذ لا يعبّر يوسف عبر صفحته المزورة على الفيسبوك، وعبر خطاب الكراهية الذي يبثّه، والرغبة العميقة بالانتقام التي تحرّكه، لا يعبّر وحسب عمّا يشغلهُ - وهو أحد ضحايا عمليات الخصاء - بل تتبدّى من خلالهِ تلك الجموع العاجزة، التي لم تجد من يفكر في إنقاذها، لتقتصر أفعالها على إرادةٍ غاضبة وعنّينة، تفتقد أدوات التحرّر، جموعٌ عاجزة، تئن بأصواتٍ مخنوقةٍ، وهي تحاول تغيير واقعها. 

رواية بوشارب هي الثالثة ضمن ثلاثية "الجزائر" التي صدر منها "سكرات نجمة" (2015) و"ثابت الظلمة" (2018)، التي تنجح فيها، عبر شروط الفن الروائي، في توظيف عِلمَي الاجتماع والنَّفْس وتستدعي إلى الرواية دراساتٍ وإحصائيات، ومعلوماتٍ تاريخية ونظريات نفسيّة، وتفاصيل طبية تشريحيّة. وعبر كل ذلك، تنمو الحبكة في اتجاهٍ تصاعدي، تتشابك الخيوط وتتعقّد، ومن ثمّ تنحلُّ عُراها إلى وجهات عديدة، تساند المجتمعات المقهورة بحكاياتٍ عن النجاة، وعن التكاتف الإنساني في وجهِ الظلم.


* كاتب من سورية

بطاقة
أمل بوشارب روائية ومترجمة جزائرية، من مواليد دمشق عام 1984. مقيمة في إيطاليا، وهي مديرة تحرير مجلّة "أرابِسك" الإيطالية التي تُعنى بالأدب العربي. أول إصداراتها مجموعة قصصية بعنوان "عليها ثلاثة عشر" (2014)، ولها في الرواية ثلاثة أعمال صدرت عن "منشورات الشهاب": "سكرات نجمة" (2015) و"ثابت الظلمة" (2018)، و"في البدء كانت الكلمة" (2021).  وهي تكتب أيضاً بالإيطالية التي صدرت لها فيها قصة "المتمرّدة" (2019).

المساهمون