أزعم أنّ هناك غياباً لـ الأغنية الوطنية الفلسطينية، بمفهوميها الشعبوي والوحدوي، ليس غياباً مادياً بالضرورة. وعلى الرغم من ميلي إلى القول بعدم براءة هذا الغياب، إلّا أنّ وجهة نظري بعيدة بقدر المستطاع عن أيّ سياق موجَّه يستند إلى حُكم مسبق أريد إثباته. وقبل الخوض في غيابها من حضورها والبحث عنها، دعونا نبدأ بحثنا بـ النشيد الوطني عالمياً كأغنية وطنية، قبل أن يُستخدم لاستقبال كبار المسؤولين أو في بداية المباريات الرياضية والمناسبات الرسمية.
نقرأ النشيد الوطني كشكل لحضور أو تجلٍّ للأغنية الوطنية. باستعراض تاريخي، نجد أنّ أقدم نشيد وطني بشكله الحالي هو النشيد الوطني الياباني "كيميغاجو"، الذي كُتب في القرن العاشر للميلاد، خلال حقبة انتقالية كان فيها الأباطرة مجرَّد واجهة شكلية لحُكم نخبة الأثرياء، لتعود بعدها السلطة المطلَقة والحُكم العسكري بيد الأباطرة. فالقصيدة تخاطب الإمبراطور وتدعو أن يدوم مجدُه ألف جيل، بل ثمانية آلاف جيل، وقد اتّخذ هذا النشيد شكله الحالي رسمياً عام 1880.
ازدهرت في زمن لم يعرف الإنترنت ولا وفرة في الاستديوهات
يذهب البعض لاعتبار هولندا صاحبة أقدم نشيد، وذلك لأنّ نشيدها الوطني كان لحناً وليس مجرَّد قصيدة فحسب. ففي عام 1572 تُوّج "الفيلهلموس" كنشيدٍ وطنيٍّ يروي قصّة نضال وانتصار المملكة الهولندية في ثورتها ضدّ ملك اسبانيا، فجاء النشيد ليُخلّد اسم ويليام أورانج الذي يُخلص لضميره في خدمة الله والهولنديّين. وفي القرن التاسع عشر تراجعت شعبية "الفيلهلموس"؛ فالنشيد كان يتغنّى بعائلة ملكية لم تعُد محبوبة شعبياً. وجنوباً، حيث بلجيكا التي كانت امتداداً للمملكة الهولندية، لم يكن البلجيكيون على وفاق طائفي مع النشيد الذي يرمز للبروتستانتية، وظلّ النشيد غير محبوب شعبياً لغاية الحرب العالمية الثانية، ليعود ليلعب دوراً في جمع الهولنديّين على حب الوطن.
على اختلاف أسباب ظهوره تاريخياً، يبقى النشيد الوطني بحاجة إلى قرار من بيدهم الحُكم في اختياره. ونستطيع القول بأنّ النشيد كان، إمّا يحثّ على حُب المَلك الذي يحمي الوطن، أو يحثّ على حُبّ الوطن بأرضه وشعبه ومميزاته. لكن الأغنية الوطنية هي حالة إنسانية تعكس مشاعر جمعيّة تُحدّد ولادتها وانتشارها وبقاءها، فالعالم مليء بتجلّيات تاريخية خالدة لأغانٍ ثورية.
تُمثّل أغنية "من سجّن عكا" تجلّياً للثورة ضدّ البريطانيين في تلك الحقبة، التي كانت الأغنية الوطنية فيها تتماشى مع الأغنية الشعبية من حيث البنية اللحنية، وتكون في بعض الأحيان على غرار ألحانٍ معروفة، تتناول أسماء شهداء، وتتغنّى بالمقاومة وقيمها رموزها. وفي ما بعد، أصبحت الأغنية الوطنية مجالاً للتنافس بين فصائل الكفاح والنضال الفلسطيني، لتأخذ أشكالاً متعدّدة بالتجلّي الشعبي، وفي رسم الذاكرة الجمعية الفلسطينية والعربية على حد سواء، بين أغنية شعبية ونشيد وطني وإسلامي.
لا يعني الحديث عن غياب الأغنية الوطنية ضرورة وجودها
إن نسي جيل الانتفاضة الأُولى دور الأغنية الوطنية أو وجودها، فهو لا ينسى ممارسات الاحتلال في هذا الخصوص. كانت كاسيتات الأغاني الوطنية سبباً في اعتقال من تُضبط في منزله والتنكيل به، فضلاً عن مطارَدة واعتقال واغتيال من يكتب ويلحّن. وعلى الرغم من تلك التضييقات، لم يُمنَع هذا الصوت من الظهور في زمن لم يعرف الإنترنت، ولا رفاهية ووفرة الاستديوهات وإنتاج الأغاني.
في الانتفاضة الثانية، كانت المحطّات الإذاعية وقنوات التلفزة المحلّية هدفاً للاحتلال، وقد قيل إنّ الاحتلال اشترط منع بثّ الأغنية الوطنية على أثير الراديو وشاشات التلفزيون. صحّة ما يقال بهذا الخصوص من عدمه ليست محورنا بالطرح، إلّا أنّنا ومنذ "أوسلو" نلحظ غياباً لبثّ الأغنية الوطنية على الأثير واقتصار بثّها في مناسبات الحداد على شهداء غزّة على مرّ الحروب التي صارعتها.
بعد الانتفاضة الثانية، وجدَت الأغنية الوطنية في الفرق الموسيقية الفلسطينية منبراً لتتجلّى عبره، سواء بإعادة إحياء أغاني الانتفاضة الأُولى أو بإنتاجات جديدة جرى جمع تمويل إنتاجها بشقّ الأنفس. وتُصنَّف الأغنية الوطنية في إطار ما بات يُعرَف بالفنّ الملتزم، واقعةً بين مطرقة التمويل المشروط، وسندان الطبقة المثقَّفة ومؤسَّساتها، التي تاه بعضها في دهاليز المصفوفة، ممّا أدّى إلى تواضُع دَور المثقّف في تكسيرها.
في مكان آخر، نجد أغانيَ وطنية بجودة متواضعة، وفي بعض الأحيان تكون على غرار ألحانٍ معروفة، تتناول أسماء الشهداء، وأسماء مدنهم ومخيّماتهم، وتتغنّى بالمقاومة وقيمها ورموزها. تُنشر هذه الأغاني عبر يوتيوب وبمشاهدات مليونية، عن طريق أفراد مثل حمزة أبو قينص، وبلال الأحمد، وفرق مثل "فرقة الوعد"، و"فرقة الوفاء"، و"فرقة الجوقة العسكرية". ما زالت هذه الأغنية محارَبة وغير معترف بها، فلا نجدها على الإذاعات، ولا نسمعها في الحفلات والمناسبات والمهرجانات.
وزعمي أنّ غيابها لا يعني بالضرورة وجوب وجودها، وإنّما الشاهد تاريخياً من ظهورها شعب واعٍ ومثقّف يغنّي أغنية واحدة، والبحث عنها يحتاج مسؤولية جماعياً، فإن كنتَ في قطاع الفن والثقافة فأنت تعلم أين تبحث، وإن لم تكن كذلك فحاول أن تكون مستمعاً جيّداً، لعلّها تكون موجودة ولعلّ عصا المايسترو بين يديك. وإلى أن يعود المفقود كلٌ يغني على ليلاه.
* كاتب من فلسطين