أطفال الندى (9): عند جدار بيت تُشرق عليه شمسٌ دائمة

09 يوليو 2022
من أطلال قرية أمّ الزينات التي دمّرها الاحتلال الإسرائيلي عام 1948
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "أَطفال الندى"، أبرز أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول الماضي، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد" وأحد أبرز كُتّاب فلسطين والعالم العربي.


صديقنا الجندي التركي يصحو أحياناً ويسمع جنّيةً تناديه فيهبّ وينطلق خارج البيت والكون. ولو لم يكونوا يربطونه بالحبل أثناء نومه أين كان يمكن أن ينطلق وأيّ مدى سيجري فيه إلى أن يصل إلى أمّ الزينات على السفح الجنوبي للكرمل؟

اعتقدتُ دائماً أنه كان سيجري... ويجري إلى أن ينتهي هناك ليبكي عند جدار بيت محطّم بينما تشرق عليه الشمسُ الدائمة... شمسُ جنونه العظيم.

ولكنّ الندى هو ما يثيرني حين يُذكر في الرواية - أي رواية - ويتساقط من أطرافِ السرِّيس حين تهتز أوراقهُ، ويجتاز القرويون الطرق التي لا تكاد تظهر إلّا في مخيّلتهم... الندى وحده هو سيّد الليل والصباح وسيّد البداية والنهاية. كان حاضراً ولا شكّ في تلك الليلة التي استيقظ فيها جدّي وأعدَّ عدّته للنزول إلى حيفا واتكأ مستنداً في غرفة الضيوف إلى فنجان قهوته ولفافة تبغه قبل أن تصرخ الجدّة وهي تجده شبه غاف وميتاً، وقد ارتفعت شمس النهار وتطاير الندى... كان حاضراً ولا شك حين انتهوا من مهمّتهم ودفنوه في حاكورة البيت وغطّاه الندى إلى الأبد، وما زال يغطّيه.

إنه لا يشبه الغمامَ ولا المطرَ بل الهواء الذي يلتمع فجأةً حين يظهر فقط على خُضرة أوراق الشجر ويهبُّ الهواء فينشر رائحته المبكّرة على مسافاتٍ ومسافات، ويتساقط ذائباً مع ارتفاع شمس النهار لتشربه التربة ونكتشفه بعد ذلك في كلّ شيء، أعني في رائحة السرّيس والبطم والصيافير والخروج المبكّر من الطفولة.

إنه يشبه الطفولة لهذا يظلّ أبدياً لا نعرف من أين يأتي ولا أين يذهب، ولكننا نعرف أنه موجود بالأمس واليوم والغد، يشهد لأمّي وأبي ولخليل والشيخ حمزة وللمرأة التي ما زالت تبحث عن قاتلِ أخيها ولأخي الذي مات بعيداً عن الندى، يشهد أنّهم كانوا صادقين في المحكمة الدولية وأمام قرارات الأمم المتّحدة التي تجاهلتهم واتّخذت من الأوكرانيين والبولنديين والبلغار والإسبان والإنكليز شهوداً وقضاة.

إنّه الندى الذي كان يملأ شعر أخي ويجعله ثقيلاً يتدلّى على جبينه، وهو يصعد من بيتنا إلى البلد مع شروق الشمس ذاهباً إلى المدرسة. وهو نفسه الذي كان يلتمع مثل قطرات الضوء حيث كان أبي يتّخذ طريقه إلى كرومِنا ضارباً في هذه الغابة من الخضرة، إلّا من صوت الأغصان والأوراق وهي ترتدّ وتنغلق كلّما غاص عميقاً وابتعد يبلّله الندى.

صديقنا الجنديّ التركي ما زال ساهماً مُطرقاً ووحيداً أمام بيتِه المحطّم يحيطُ به القرويون وقد آذنتِ الشمس بالغياب، وارتفع دخان الطوابين في أكثر من بيت. حدث ذلك في يوم ما لم يعد يتذكّره أحد لأن الذاكرة الوحيدة التي احتفظتْ به سقطتْ في هوّةٍ مُظلمة وتركتْ هذا العالم للصخرِ والندى والموج الذي يلطم أقدامَ الكرمل.

ويهبّ الرجلُ من مكانه ولكنه ليس الرجلَ نفسه، ويتطلّع إلى من حوله، ولكن ليس بتلك العيون المألوفة نفسها. لقد سُرق منه الماضي تماماً وصار عارياً إلّا من الحاضر... من لحظة لن تغادرَه ولن يغادرها ولو مرّت آلافُ السنوات. ويتحرّك ببطء إلى لا مكان... صغُرتْ في عينيه المسافة حتى ليهمّ بمطاولة الظلال التي خلّفتها الشمس بين صيافير الجبل، ويصل إلى ما وراءها إلى المرج الذي يمتدّ بلا نهاية.

ستناديه حبيبته بعد ذلك مئات المرّات وقد ضَربت له موعداً أبدياً لا يجيء ولا يذهب، وسينطلق على مدار السنوات وراء هذا النداء.

يشبه الندى الطفولة لهذا يظلّ أبدياً لا نعرف من أين يأتي ولا أين يذهب

ويقولون إنه تحوّل إلى شجرةٍ متهدّلة الأغصان يعبق في أغصانها الندى والتراب، وترتفع وراءها الشمسُ لتلقي بظلّها الطويل على جوانب الطُّرق. وكثيراً ما كان الفلاحون يصادفونه واقفاً بعينيه العميقتين وشاربيه الكثيفين منتصباً على جانب الطريق لا يحدّق في أحد ولا يشاهد أحداً بل واقفاً فقط. عيناه في البعيد كأنه ينتظر شخصاً يأتيه من الجانبِ الآخر. ويتلفتُ الفلاحون حولهم باحثين عن هذا الشخص، فلا يجدون أحداً يلوح بشخصه بين الأشجار.

ويعرفون أنها المرأة... تلك المُحاربة التي رافقته إلى الحرب وغرّرتْ به حتى استسلمَ لها تماماً، ويعرفون أنّها المنتقمة التي طوت الأرض طيّاً وسبقته إلى بيته فهدمته على أطفاله وزوجه، فتعتريهم رعدةٌ وتسري في أجسادهم رعشةُ خوفٍ أمام هذا السرّ الذي هو فوق الأفهام والعقول.

وأعرف أنه الندى... الندى هو ما أورثه الجنون.

هذا الذي كان منذ البدء ومع مسيرة الزمان مولوداً للهواء، هواء البحر والشطآن، لم يكن طوفاناً ولكنه الطوفان بذاته الذي أغرق السماء وبلّلَ الأرضَ والرؤوسَ وتغلغلَ عميقاً في مسارب الروح حتى أيقظ فيها حالة بين النوم واليقظة وحوّلها إلى سفينة تتأرجح وتخفق كما خفقة الريح بين أشجار الزيتون.

إنّه الندى... وأنا متأكّدٌ أنه السيد الذي قسّم الأرضَ وحدّدَ أماكن الآبار والمعابد وكروم الفلاحين، وتناوله السارون مع الفجر بأكفّ أيديهم وبلّلوا به شفاههم الجافة، وأبعده المختبئون بين السرِّيس عن رموشهم، ومسحه الغزاةُ عن أسلحتهم، وتعثّرَ به الهاربون من تجنيد الأتراك.

إنه لا يترك أثراً على الأرض، ولكن في الروح، عميقٌ حتى جذورها.

مثل هذا الندى لا بدّ أنه غمرَ تلك الليلة، ومئات الليالي، التي انتظر فيها الفلّاحون أن يأتي أبو الهول بعد أن فشلوا في حلّ ألغازه منتقماً من أبناء الندى... أبو الهول الذي امتدّ على شكل قبّانيات وإذاعاتٍ غامضة، وروايات يرويها العائدون من سوق حيفا أو من القرى التي سقطتْ، وانتزع الفلاحون من لحمِها بأصواتٍ غريبة تطرق الأسماعَ لأوّل مرّة.

لم ينجُ من ذلك إلا الأموات الذين غمرهم الندى عراةً في قبورهم مرتجفين بأحداقهم التي اتّسعتْ وعجزهم عن النهوض بكامل أسلحتهم. أكانوا أمواتاً حقّاً أولئك الذين يتحدّث عنهم الفلاحون كأجدادٍ غامضين جاؤوا منذ بدء الخليقة، وجاء معهم الندى والزيتون والجبل والبئر وجرن القمح؟ أم كانوا أحياءً بلا ممالك ولا فتوحات ولا برونز ولا ألواح... مجرّد فلاحين راسخين في ذاكرة الندى والصيافير وحجارة السناسل؟

لا تعرف أمّي مَنْ حفر بئر الهرامس، ولكنّها تصفه حجراً حجراً، ولا يعرف أخي الذي تعلّم الإنكليزية مَن الذي أقام هذه السنسلة القوية وغرسها في خاصرة الجبل، ولكنّه يشعر أنها جزءٌ من كيانه تمتدّ في الروح بعد أن يغيبَ عنها ضارباً في طريقه إلى المدرسة.

ويستند صديقنا التركي إلى أصلِ زيتونة جالساً مع لفافة تبغه وقد اصفرّ شارباه، وهو يحدّق هذه المرّة في الشيخ حمزة هابطاً إليه من الأعالي بين الصيافير صارخاً بما لا يُفهم... يلوح ويختفي.

ويهزّ التركي رأسه غائباً عمّا حوله. لقد ظلّ ليلة كاملة في مكانهِ وها هي الشمسُ تغرق في البحر. ولا شيء يُخيف في هذا الوقت سوى هدير القنابل في ماضيه البعيد، وضجيج العسكر وهم يهجمون. كان المرجُ أخضرَ أمامه حيث يتسابق الفرسان وينقصف بعضهم مثل أعواد القصب بينما يثور غبارٌ في الجانبِ الآخر من التلال البعيدة وتصل أصواتٌ مثل هدير الريح. أكان ذلك في القرم أم في البوسنة أم أمامه تماماً بين أحراج الزيتون؟

إنّ ندى ليلة كاملة يشوّش التفكيرَ ويحوّلُ الكائنات إلى ماء، والمعارك إلى هجمات أطفال يلعبون تحت فضاء الله غافلين عن الماضي والحاضر والمستقبل.

ويسند رأسه إلى جذع الزيتونة مُرهِفاً سمعه إلى مكان ما لا يكاد يتبيّن ملامحه، ولا يرى الرجلَ الذي بدأ يصعد من العتمة ويمرّ به هذه المرة ويتوقّف ثم يهزّ رأسه ويمضي واضعاً يديه خلف ظهره.

ويكاد يناديه أو ينهض ولكنّ الفكرة تحاذيه وتفلت منه وراء الرجل وتحثّ خطاها بينما يظلّ جسدُه مقيّداً إلى جذع الزيتونة ثقيلاً كما الحجارة.

خارج هذا الصمت المبهم، وخارج الغابة لا تصلنا إلا غمغمات عمّا يحدث

في تلك الليلة المضاءة وحدها في نهاية نفق مُظلمٍ وجدتني محمولاً على كتف شخصٍ مجهولٍ سأعرف فيما بعد أنّها أختي الكبيرة. وهنا وهناك أناسٌ يظهرون ويختفون بين الضباب. كان الجو يميل إلى البرودة، والصخور مبلّلة ترتفع وتهبط بلا سبب... إلى بداية النهار وما بعده لا شيء.

في تلك الليلة ربّما وُلدتُ أو بعدها، وسرى بي الأهلُ من مكان إلى مكان تلاحقهم الأشباحُ ونبوءة احتلال اليهود، وقتل كلّ امرأة حامل أو طفل رضيع. وتحت أشجار الّلوز في "جنين" ربما بلّلني الندى... أنا وحبّات اللوز المتساقطة التي جمعتها أمّي في حرص بالغ، ووضعتها جانباً. لم يكن البستانُ لنا، فلم يعد لنا بستانٌ بعد اليوم... ولا كان أصحابه أصحابنا نحن القادمين من الساحل... ولا ندري إلى أين بين أرجل العمالقة والأشجار التي تُطاول السحب في أعماق الغابة التي اندفعنا إليها هاربين من الطوفان.

كنّا صغاراً، وأرى أقزامَ حبّات الجوز في محاولاتهم للاختباء تحت هذه الشُّجيرة ووراء ذلك الحَجر تتَّسع عيونُهم دهشةً عند أقلّ حركة من حركات العمالقة الذين يدورون بحثاً عنهم، فيتجمّعون كأنما لحماية أنفسهم من العراء الكامل والازدراء.

كان الذي يسقط بين أيدي العمالقة يُؤخَذ بين أيديهم مثل جُندبٍ صغير يتقاذفونه متضاحكين وننظر إليه من بين الشقوق وأوراق الشجر ولا نستطيع إنقاذه، ونتوقّف عن مجرد التفكير بالمحاولة، ونحن نراهم يمضون في طريقهم، وصرخات الجندب الصغير تصلنا، وتطغى على قهقهاتهم وصخبهم.

لن نسمع بأخبارهِ بالطبع، ولن نعرف أين ذهبوا به وماذا فعلوا، فخارج هذا المخبأ الذي هو جسدنا الوحيد، وخارج هذا الصمت المبهم، وخارج الغابة لا تصلنا إلا غمغمات عمّا يحدث... هناك... وسيقول معلّم المدرسة الذي أعطاني الكتبَ بلهجة لا أعرف لها طعماً حتى الآن غير المرارة: "لولا عيون أبيكَ لما رأيتَ هذه الكتب". وأُصابُ بالدهشة من كوني مُخَاطباً لأول مرّة ومكتشَفاً في حالة تلبّس برغبة حادة في القراءة... لم أبُح بها لأحد.

ولكن معلّم النشيد سيكون أرقّ قلباً، فهو بطوله الفارع وسُمرته الأفريقية كثيراً ما جلس على كرسي مرتفع وهو يغنّي أغنية ما، ويدقّ دقّاتٍ منتظمة على الطاولة أمامه. لم يكن يتطلّع إلينا أو لم يكن يغنّي لنا بالأحرى بل كان يظلّ رافعاً رأسه يتطلّع عبر النافذة بينما ينساب صوته الرقيق بنشيد لم أحفظ منه غير نغمته ودقّاته.

كلّ هؤلاء كانوا من العمالقة الذين يأتون من خارج غابتنا، ويتوافدون كأنما قرّرَ الجميع اكتشافنا ومعرفة ما نخبّئه. ومع ذلك فلا أتذكّر أنهم كانوا يخاطبوننا أو يسألون عن أسمائنا. وحتى عندما اختاروا بعضنا لنقله إلى الصفوف التالية وضعونا في ثلاثة صفوف كنتُ في الوسط منها أتطاول على رؤوس أصابعي، فتتجاهلني المدرّسة وتنظر خلفي وتشير إلى أحدهم فيتقدم... والثاني... والثالث ثم انصرفوا... وبقيتُ في الصف الأوّل. يدهشني حتى اليوم لماذا لم يقعِ الاختيارُ عليّ مع من اختاروهم للانتقال إلى الصف الثاني... وكلّي اعتقادٌ بأن ظلماً متعمّداً قد وقع... أو أنّ ذلك المدير اللعين هو السبب، فقد انتقمَ من أبي بطريقته الخاصة.

وأعودُ من المدرسة في طريقي إلى البيت، فأمرّ على جنديّ ضئيل الحجم وامرأة وطفل يتناولون غداءهم ذات ضحىً. كان الفصلُ دافئاً والشمسُ صغيرة والناسُ في كل مكان. لم يكن هنا عمالقة من أي نوع في مخيم الأقزام هذا. كان كل شيء كبيراً وبحجمه الطبيعي. فهنالك مقهى أبو خضر في الطريق... المقهى الوحيد. وهنا بركة السباحة الجافة التي خلّفها الجنود البريطانيون.

ومن البعيد تلوح البراكسات السوداء التي احترقت ذات يوم، فثبت سكانها في ذهني باسمهم المميز... البراكسات السوداء، وجاء العمالقة بخراطيم المياه من المعسكر القريب وشاهدتهم يطفئون الحريق وشاهدتُ رجلاً ما بملابس مُميّزة، يسير محنيّ الرأس كأنه يفتّش عن شيء في التراب ولا يلتفت... بقميص أبيض وبنطلون أزرق وحذاء بنّي لامع. وفاجأني شعورٌ بأن ثمّة ما سيربطني بهذا الرجل... وفي وقت قريب تماماً.

ها أنذا أغادر تلك الليلة، وأعرف أن أحجام الناس متساوية تحت هذه الشمس المنبسطة... وبين البراكسات ما كان مأهولاً منها وما كان مُغلقاً وغامضاً. نمرّ بنوافذ ذات قضبان حديدية ولا نرى في الداخل غير الظلام.

ليس للندى هنا وجود، ولا أتذكر أنني أحسستُ بغير برد الشتاء وحرارة الصيف. لا منحدراتٍ ولا صخوراً... بل غُرَفاً معتمة ما زال على جدرانها بقايا دُخان... بسقوف واطئة وبلا نوافذ... نتجمّعُ فيها ونحن في فراشنا، نراقب الكبار وهم يتحدّثون ويصرخون ويتهامسون.

المساهمون